د. سامح فوزى
بمناسبة الأعياد الدينية المتتابعة، مسيحيًا وإسلاميًا، أجد حرصًا فلسفيًا، لاهوتيًا وفقهيًا، على التأكيد على الحقيقى فى مواجهة المقلد. فى التراث المسيحى هناك تعبيرات كثيرة تخاطب الله بوصفه الإله الحقيقى، وتصف السيدة العذراء مريم بأنها الملكة الحقيقية، وهى أوصاف تدل على حرص شديد على الجوهر الأصلى فى مواجهة المظهر المقلد. هناك آلهة من تصورات وصنع البشر مثل تماثيل وكواكب وحيوانات مخيفة، عرفها التاريخ تعبيرا عن خوف الإنسان من المجهول، وطلب الحماية من قوة خفية لا يعرفها. من هنا، كان هناك حرص وانحياز من جانب المسيحيين للحديث عن الإله الحقيقى، وليس المقلدات البشرية التى إلى زوال. وهو نفس المعنى الذى لمسته فى كثير من الصلوات الإسلامية التى تركز على الله الذى لا شريك له، فالعقل المؤمن يدرك أن الله، الإله الحقيقى، الواحد، لا شريك له، وهو إعلان تمسك بالعظمة الإلهية، واستعلاء القدرة الإلهية، التى لا تنازعها قدرة بشرية أو منحوتات من صنع البشر.
وقد يكون الحقيقى بمعنى الكرامة المستدامة فى مواجهة الكرامة البشرية المؤقتة، مثل دعوة السيدة العذراء مريم فى التقاليد المسيحية بــ الملكة الحقيقية، بالتأكيد هناك ملكات كثيرات فى تاريخ الإنسانية، وواقعها المعاصر، حصلوا على اللقب وفق ترتيبات قانونية أو أعراف وممارسات عامة، لكنهن ملكات محدودات بالسياق والزمن اللذين يتواجدن فيهما، لا يدوم لهن هذا الوصف مقارنة بالملكة الحقيقية، أى العذراء مريم، التى يتجاوز حضورها أى زمان ومكان، وهى التى لها سورة باسمها فى القرآن، الذى وصفها بأنها أطهر نساء العالمين، وهو وصف فيه حسم، بأنه مهما بلغت امرأة من مراتب التقوى والورع فإن السيدة العذراء مريم تأتى متقدمة عليها.
وأظن أن انحياز الأديان إلى مفهوم الحقيقى فى مواجهة المقلد، والدائم مقابل المؤقت، يلفت الانتباه إلى قضية إنسانية أساسية، وهى أن صراع الحياة يستلزم دائما جهدًا مضاعفًا من الإنسان حتى يصل إلى جوهر الحقيقة، ولا يكتفى بالمظاهر التى قد تكون فارغة وسط ركام الزيف، وهو ما يمكن أن نسميه الوعى الحقيقى فى مواجهة الوعى الزائف.
فى إحدى قصص نجيب محفوظ كان الموظف التافه على أفندى جبر يشبه فى ملامحه الشاعر الكبير محمد نور الدين، فوقعت أرملة على باشا عاصم فى غرام الأول على اعتبار أنه الثاني. كانت ثرية تبحث عن حضور اجتماعى يتيحه لها الالتصاق بشاعر كبير، ومرت الأيام، واكتشفت زيف من وقعت فى غرامه، واقامت علاقة معه عندما فضحته صديقة لها كانت على معرفة بالشاعر الكبير.
فى حياتنا نرتطم كثيرًا بنموذج على أفندى جبر, قد ندركه على خلاف حقيقته، لهوى فى نفوسنا، أو بحثا عن غرض دفين، ثم نستيقظ على الحقيقة المؤلمة، بعد أن تكون مرت أيام وأيام، بُحنا فيها بأسرار، واقتربنا من الآخرين دون مسافات آمنة، ووجدنا الحقيقة خلاف الصورة.
وقد انشغل إريك فروم، عالم الاجتماع والنفس الألمانى (1900-1980)، بقضية المظهر والجوهر، ووضع كتابًا مهمًا فى هذا الشأن، لأن الجوهر الحقيقى قد لا يظهر فى المظهر المزركش الملفت الذى تعلوه المساحيق.
وسوف يظل البحث عن الحقيقة تجربة إنسانية، بحثية وفلسفية، تهم الناس فى كل مظاهر الحياة، خاصة أصحاب الفكر العميق الذين ينشغلون بفهم الآخرين من حولهم، ويتأملون فيما يحدث من مواقف الناس حتى يدركوا الحقيقى من الزائف. بالتأكيد هى مسألة صعبة ومٌحيرة، لأن العالم ينحاز فى تطوره الاقتصادى والاجتماعى إلى الزيف بدلا من الحقيقة. وسائل الإعلام، خاصة الالكترونى، تنحو فى حالات كثيرة نحو الأخبار الكاذبة وغير الصحيحة، وفبركة الأحداث، والذين يروجون للموضة فى كل شيء، يقدمون الشكل على المضمون، والمظهر قبل الجوهر، باعتبار أن الشكل مبهر، ويُحدث تأثيره سريعًا على الإنسان. ويعرف خبراء الإعلان ذلك جيدا، ويوظفون عناصر الابهار فى جذب المستهلك الذى دائما يبحث عن السعادة فى المظاهر الخارجية، ونظرا لأن الصورة باتت ترتبط بالمكانة، والشكل الاجتماعى، فإن المجتمع ينحاز دائما إلى الشكل، والظهور، والإبهار.
لم يكن سعى الأديان إلى التأكيد على الحقيقى فى مواجهة الزائف، إلا منهجًا أساسيًا فى فهم الحياة، حيث طغى تأثير المظاهر الخارجية التى تشد الإنسان خارج المسار العميق الذى ينبغى أن يسير فيه، وأصبحت حتى المعانى الدينية والروحية فى حياتنا لها طابعها الاستهلاكى، ونستقبل الأعياد ونودعها بالاستهلاك، والابتهاج بالشكل ربما على حساب جوهر وعمق المناسبة ذاتها.
نقلا عن الأهرام