سحر الجعارة
فى عام 2005، أثارت الدكتورة «أمينة ودود»، أستاذة الدين والفلسفة، فى جامعة فرجينيا كومونولث الأمريكية آنذاك، ضجة حين أمّت المصلين فى نيويورك، وكما نعلم فإن الجاليات المسلمة فى أمريكا وأوروبا تفتقد -أحياناً- لمن هو أعلم بالدين وأتقى ليكون إماماً للمصلين.
فمن هى «ودود» التى لم تصلنا أفكارها بقدر ما وصلت إلينا مواقفها، ولدت فى عام 1952 لعائلة أمريكية من أصول أفريقية فى مدينة بيثيسدا فى ولاية مريلاند، وكان والدها قسيساً من الطائفة الميثودية، رباها على «الحبّ».
وفى عام 1972 اعتنقت الإسلام، وغيرت اسمها من مارى تيزلى إلى آمنة ودود. قرأت القرآن بترجمة إنجليزية، ما خلق لديها فضولاً لتعلّم العربية لكى تتمكّن من قراءته بلغة النزول (أمضت فترة الدراسات العليا فى مصر بما فى ذلك دراسة اللغة العربية بشكل متقدم فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة، تخصصت بالدراسات القرآنية والتفسير الدينى فى جامعة القاهرة، والفلسفة فى الأزهر).
العام الماضى احتفلت «أمينة» بثلاثين عاماً على صدور الطبعة الأولى من كتابها المرجعى «القرآن والمرأة» (1992) الذى كان من أوائل محاولات التفسير المنهجية للنص القرآنى، من منظور الجندر، وقدم مساهمة جوهرية فى تيار فكرى إسلامى يمثّل قطيعة مع تقاليد فى التفسير احتكرها الرجال.
حين ألّفت الكتاب الموجز والمكثّف، لم تكن تنوى نشره. كان عبارة عن أطروحة لنيل الدكتوراه فى التفسير القرآنى من جامعة ميتشيجان عام 1988.فهى حين اختارت موضوع بحثها عن «إعادة قراءة النصّ المقدس من منظور امرأة»، كانت كمن يدخل صحراء قاحلة، لم تطأها نساء كثيرات من قبل، لدرجة أن الأساتذة المشرفين على بحثها، كانوا يسألونها إن كانت تدرك ما تفعله حقاً!.
يبدو أن «آمنة» كانت تدرك ما تفعله تماماً، وإن لم تكن تتوقع حجم التأثير الهائل الذى ستخلّفه. اليوم، باتت مدرسة النسوية الإسلامية التى ساهمت فى وضع أسسها، منهجاً بحثياً قائماً بذاته، وبات كتابها الذى ترجم إلى لغات عدة، مرجعاً فى مجال الجندر والإسلام.
تقارب «آمنة» علم التفسير ضمن إطار نظرى شامل، هو التوحيد، بمعنى أنّ روحية النصّ القرآنى عادلة بالمطلق، فلا فوارق هرمية ولا تراتبية بين البشر على اختلاف أجناسهم، وطبقاتهم، وأعراقهم، وميولهم. كلهم على درجة واحدة، و«الله وحده أكبر»، كما تقول.
علاقة التشريعات الإسلامية بالنساء، مثار سجال حامٍ لا ينطفئ فى العديد من البلدان بين المؤسسات الدينية والحكومية وبين من يتهمون تلك المؤسسات برعاية قوانين غير منصفة، سواء على صعيد الطلاق، أو الميراث، أو حتى الشهادة فى المحاكم.
وأمام هذه المعضلة، تتعدّد الآراء. فهناك من يرى أن القرآن خاطب سياقاً اجتماعياً محدداً بما يتناسب مع زمن نزوله، لكن التأويلات حصرته فى الماضى، مع احتكار الرجال لعلوم التفسير. وهناك من يرى أن بعض الآيات القرآنية تحمل تمييزاً واضحاً، كغيرها من النصوص الدينية القديمة، ولا مجال لتجميلها، والحلّ الوحيد هو بإقصائها الكامل عن التشريعات.
استوقفت هذه المعضلة «آمنة»، فبموازاة حفرياتها فى النصّ، كانت تجول العالم، وتلاحظ التمييز الذى يطال النساء فى العديد من المجتمعات المسلمة.خلق ذلك حافزاً لديها لتسأل: «إن كان ما أعايشه عن قرب، هو الإسلام حقاً، أو شيئاً آخر»؟ تقول: «أردت أن أتقصّى بنفسى إن كانت تلك الممارسات مستقاة من القرآن، أم أن التفسير هو ما يكرّس حذفى، وتجاهلى، وجعلى ممحوّة بالكامل».
بعد ثلاثة عقود على نشر كتاب «القرآن والمرأة»، ترى «آمنة» أن مقاربتها للجندر فيه، وإن كانت جديدة فى حينه، إلا أنها باتت تحتاج إلى تطوير.تخبرنا: «حين انخرطت فى جهاد الجندر، كما أسميته، كنت أنطلق من ثنائيات مغلقة وضيقة.
الآن أعرّف نفسى كشخص خارج الثنائية الجندرية وكويري، فبعد تقصى الأمر فى النص وفى السياق المعاش، بتّ على قناعة بأننا نحتوى جميعاً عنصرى الذكورة والأنوثة، الين واليانغ، الجمال والجلال، كما فى أسماء الله الحسنى».
لذلك، تدعو «آمنة» للنظر إلى الله خارج ثنائيات التذكير والتأنيث اللغوية، فالخالق، صاحب الجمال والجلال، لا يمكن حصره فى ضمائر أو صياغات لغوية ضيقة. من هنا، تجدها تشير إلى الخالق بضمير «هو» حيناً، وبضمير «هى» أحياناً أخرى.
لم يكن مسار آمنة ودود التجديدى فى البحث الأكاديمى، ميدان اشتباكها الوحيد مع الحدود التى تعتبرها مرصوصة بعناية لمحو أصوات النساء من التفسير.
فى عرفها، لا مكان للنظرية، من دون أن تقرن بالفعل، لذلك أخذت تجربتها النضالية مسارات متشعبة، خصوصاً فى عملها مع منظمة «أخوات فى الإسلام» التى خاضت معارك شرسة لتغيير قوانين الأسرة والأحوال الشخصية فى ماليزيا، ولاحقاً مع تجمّع «مساواة» الذى يضمّ منظمات نسوية وإسلامية من حول العالم، تعمل على تعديل تشريعات الأحوال الشخصية فى عدد من الدول.
إن تجربة الدكتورة «أمينة ودود» أطول وأعمق وأكثر تأثيراً فى البحث عن العدالة من داخل النص.. وأعقد أن اختزالها فى مقال واحد صعب، نحن نحتاج لدراسة متأنية لطرحها الفكرى.. خاصة أن التشريعات العربية فى أمسّ الحاجة لفكر جديد.
نقلا عن الوطن