فاطمة ناعوت

مازال بعضُ الناس يخلطون بين «صانع الجرم»، و«المشيرِ إليه»، فالأديبُ حين يتحدثُ في قصيدة ما، أو رواية أو مسرحية، عن لصٍّ أو بغىٍّ أو جاسوس يخون وطنه، فهو يُشيرُ بإصبع الإدانة إلى تلك الشخصية لكى يُسلّطَ الضوءَ عليها فنحاكمها ونُقوّم المجتمعَ لكى يلفظ تلك النماذج الشوهاء. القارئ غيرُ المحترف في فنّ القراءة، (فالقراءة فنٌّ صعبٌ طويل سُلّمه)، يُسقط العملَ الأدبى على الأديب، فيظن أن الكاتب يكتب سيرته الذاتية!، وتلك معيبةٌ كبرى في «فنّ القراءة»، الذي لا يقلُّ عسرًا عن «فنّ الكتابة»، فالأديب العمدة «نجيب محفوظ» لم يكن هو ذاته «سعيد مهران» في «اللص والكلاب»، ولا كان العظيم «طه حسين» «نفيسة» في «شجرة البؤس»، ولا كان العبقرىُّ «يوسف إدريس» هو الطفلة التي تحمل صينية الفرن في «نظرة».

بطلُ العمل، أي عمل فنى، ليس هو «الكاتب»، وليس هو بالتأكيد «الفنان» الذي «يُشخصن» تلك الشخصية على المسرح أو على الشاشة، فنحن نحبُّ «عادل أدهم» و«محمود المليجى» «وستيفان روستى» وجميعهم برع في أداء دور المجرم وزعيم العصابة، بينما نستكثر على نجوم اليوم تجسيد تلك الشخصيات، ونتهمهم بأنهم يروجون للجريمة والبلطجة، وكأنهم اخترعوها!. أي ميزان مختلٍّ هذا؟!. هل المجرمُ هو «صانعُ الجرم»، أم ذاك الذي يشير إلى المجرم بإصبع النقد؟!.
 
في أفلام عديدة، جسّد فنانون شخصيات تُجّار دين مُراءين يخدعون الناسَ باسم الله، فمَن المجرم؟، الفنانُ؟، أم المتاجرُ الأفّاق الذي يفضحه الممثلُ ليحذِّرَ الناسَ من خداعه، ويُبرّى الدينَ من المُرائين الكَذَبَة والشطّار العيّارين؟!. تصوّروا أن في مجتمعاتنا مَن يدينون «الممثل» الذي يشير إلى الجُرم على الشاشة، ويُبرِّئون المجرم الحقيقى الذي يخدع الناس في الواقع؟!. يا لضيعة الحقّ في زمن العيب!. ليس مجرمًا مُسيئًا للدين الذي صرخ مُدّعيًا: «أنا الدينُ والدينُ أنا»، إنما مَن ينتقده هو عدوُ الله!، يا لضيعة العقل!.
 
الفن السينمائى، والمسرح والشعر، والآداب، تتعمد تجسيدَ شخصية المجرم لكى تُنبّه الناسَ منه، وتُنقى المجتمع من مُشوهيه. الجريمةُ هي «صنعُ» الخطأ، أما «الإشارة» إليها إما قولًا أو رسمًا أو غناءً أو شخصنةً في رواية أو فيلم، فهى «تشخيصها» تمهيدًا لعلاجها. تمامًا كما «يُشخِّص» الطبيبُ المرضَ، تمهيدًا لعلاجه.
 
في فيلم «الزوجة الثانية»، شاهدنا كيف أجبر عمدةُ القرية فلاحًا فقيرًا على تطليق زوجته، ليتزوجها بعدما «حِلْيت في عينيه». طَرَق كل السُّبل. الرشوة تارةً، والتهديد والوعيد أخرى؛ والزوجُ رافضٌ ترك حبيبته أمّ طفليه، الرافضة بدورها ترك زوجها، رغم بريق الثراء الذي يلوحُ أمام عينيها حين تغدو زوجة العمدة. ولما أعْيَتْه الحِيَلُ، لجأ العمدةُ إلى «شيخ» القرية لكى يُقنعَ الزوجَ، مُعتمرًا وشاحَ الدين، والدينُ منه براءٌ، بأن طاعةَ الحاكم من طاعة الله!.
 
في مشهد كهذا، برأيكم، مَن أساء إلى الإسلام: «سعد الدين وهبة»، كاتب السيناريو، أم «صلاح أبوسيف»، المخرج؟. هل المجرمُ هو العمدةُ «عِتمان»، أم مؤدى دوره: «صلاح منصور»؟. هل المجرمُ هو الشيخُ، أم مؤدى دوره: «حسن البارودى»؟. هل المظلوم المغبون هو الزوج «أبوالعلا»، أم مؤدّى دوره: «شكرى سرحان»، ذاك الذي صرخ في وجه الشيخ الدجّال: «يا راجل يا كافر، يا عديم الدين!» حينما قال له: «امضِ يا أبوالعلا يا ابنى على ورقة الطلاق (أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأولى الأمرِ منكم)»؟!!!. مَن الذي أساء إلى الإسلام في ذاك المشهد التاريخىّ، الذي مازال يُجسّد حالنا للأسف حتى اليوم؟. صنّاع الفيلم الفنانون الأبرياء؟، أم أن المجرم الحقيقىّ هو شخصيةٌ اعتبارية لرجل جاهل يتاجرُ بالدين لمصلحته الشخصية، ومصلحة ولىّ نعمته الشهوانىّ المزواج؟!.
 
العيبُ ليس «تجسيد العيب» في الفن لتسليط الضوء عليه، «العيب» هو عيوب الواقع التي نسمحُ بها ونغضُ الطرفَ عنها!. العيبُ فعله برلمان الإخوان حين ناقشوا شرعية مضاجعة رجل زوجتَه بعد موتها!. العيبُ فعله رجلٌ لا يعرفُ عن الفنّ والأدب إلا بقدر معرفتى اليابانية، ليقيّمَ أدبَ نجيب محفوظ، فينعته بـ«أدب الفِسق والرذيلة» لأن بين شخصيات رواياته امرأةً فاسقة!، بينما لم يقل مثلًا: إنه أدب «السرقة»، مع أن من بين أبطاله لصوصًا!، لماذا؟. لأن صاحبنا يختصر «الرذيلة» في: «امرأة وفِراش»!، بينما لا يضمُّ في قائمة «الرذيلة»: السرقة، والرشوة، والخيانة، والكذب، والطمع، والحقد، والبخل، والدناءة!. مثل ذلك الرجل مشغولٌ بالمرأة، فلا يبرحُ بصرُه ثوبَها!. هو ذات الرجل الذي يريد أن يُغطى أجساد «التماثيل» بالشمع لأنها عورةٌ وأوثان!، تماثيل أرقى حضارات الأرض، أجدادنا الفراعين الذين دوّخوا البشريةَ بعلمهم وفنّهم وحضارتهم الفائقة!. يا لضَيعة الجمال والحضارة في زمان القبح والانحطاط!، زمان العيب. بربكم، لا تنسوا أن تحاكموا جثمان «البارودى»، بتهمة الإساءة إلى الدين!.
نقلا عن المصرى اليوم