القمص يوحنا نصيف

 في الحقيقة أنّه أزعجني مؤخَّرًا انتشار ظاهرة غريبة في بعض كنائسنا القبطيّة بمصر، وهي بيع ما يُسمَّى بالنور المقدّس الذي مصدره قبر المسيح، بشكل تجاري للكنائس والأفراد.. ويتمّ عمل استقبالات حافلة لهذه الفوانيس بالكنائس، والإعلان أنّ النور المقدّس سيحضر معنا القدّاس، وكأنّ المسيح القائم بنفسه على المذبح غير كافٍ، وليس هو مركز تفكيرنا الكامل وعبادتنا وتسبيحنا وتقديسنا، أثناء حضور صلاة القدّاس الإلهي..!
 
 ومع استغلال بعض التُجّار لهذه الظاهرة، ظهرت أنواع متنوّعة وفخمة من الفوانيس لحفظ النور، تتراوح أثمانها بين ألف وعدّة آلاف من الجنيهات..!
 لست أدرى ما هي القيمة الروحيّة لهذا العبث، الذي يتسلّل في غفلة إلى داخل الكنيسة، وقد يتبنّاه بعض الإكليروس دون انتباه؟!
 
 أخشى مع الوقت أن يتمّ تفريغ عبادتنا الروحيّة المقدّسة بالتدريج من جوهرها ومعناها، لتدور في فَلَك مثل تلك المظاهر الغريبة، التي ليس لها أيّ فائدة لبنيان حياتنا في المسيح.. فيصير مَثَلاً لتلك الفوانيس بعد بضع سنوات مقصورات خاصّة في الكنائس، ونخترع لها طقسًا مناسِبًا للاحتفال بتجديد النور كلّ عام..!! 
 مبدئيًّا، أنا لا أشكّك في معجزة ظهور النور من قبر السيّد المسيح كلّ عام، نتيجة صلوات طقسيّة قصيرة وتوسّلات يقوم بها البطريرك المُتَّفَق على دخوله إلى القبر يوم سبت الفرح.. ولكنّي أتعجّب أنّ النور الذي يشير إلى إعلان قيامة الربّ يسوع وغلبته للموت، وتَكمُن بركته فقط في الثواني الأولى لظهوره، يتحوّل إلى مادّة للتجارة.. ويتسبّب في تشتيت المؤمنين عن هدفهم الرئيسي من كلّ عبادتهم وهو الاتحاد بالمسيح والثبات فيه، من خلال التوبة والصلاة والتغذّي بالكلمة الإلهيّة، ثمّ التناول من الأسرار المقدّسة..!
 
    ما أخطر أن تسير الكنيسة في بعض الأوقات بدون عقل، فتحملها رياح المتاجرين يمينًا ويسارًا.. وينتج عن هذا ضياعٌ للهدف الذي نعيش له وهو ملكوت الله.. هذا الملكوت الذي ليس من هذا العالم الفاني.. وبالتالي، ومع هذا التشتيت يغيب تمجيد المسيح عن كلامنا وأعمالنا، وتغيب الشهادة لمحبّته، والكرازة بإنجيله وصليبه.. ونكتفي فقط ببعض القشور، التي ربّما تعطينا شبعًا مزيّفًا، حتّى أنّنا قد نصِل في مستوى عدم الفهم لدرجة الانشغال التامّ بمثل هذه القشور، بل والافتخار بها..!
 
يجب على الكنيسة دائمًا أن تكون متيقِّظة، وواعية لأيّ انحراف عن الهدف، فتقاومه وترفضه بشدّة.
 
 فكما أنّنا ننتبه ونحرص على إيماننا الثمين، الذي تسلّمناه من آباء الكنيسة القدّيسين الأوائل، ولا نقبل تشويهه بأيّ تعاليم غريبة.. هكذا ينبغي أن نلفظ أيّ إنحراف سلوكي داخل الكنيسة.. فهدف الكنيسة ليس أبدًا التَرَبُّح المادّي، بل فقط ربح النفوس لشبكة الملكوت، وتمتُّع الجميع بمحبّة المسيح وعِشرته الحيّة.. بعيدًا عن أيّ أغراض سياسيّة أو منافع مادّيّة..
 
لقد دعانا الله لنكون أبناءه، ومشابهين لصورة ابنه يسوع المسيح، في القداسة والمحبّة وعمل الرحمة والإحسان للمساكين، وليس للانشغال بصرف الأموال التي استأمننا الله عليها في مظاهر فارغة..!
 
 طوبى لمَن يحفظ نفسه دائمًا في تركيز كامل لتنفيذ وصايا الربّ يسوع، بعيدًا عن خداع المظاهر والمجاملات والمصالح الشخصيّة..
 
  طوبى لمَن كرّس قلبه لخدمة الربّ بدون أغراض، سوى نشر محبّة يسوع، وسلام وبنيان كلّ نفس في المسيح..
 
ليتنا نصلّي مع القدّيس مار إسحق السرياني قائلين:
 
  "ابعد يارب عن الكنيسة التشويش والأهواء، حتّى يهتمّ كلّ إنسان بخلاص نفسه".