عاطف بشاي
هل يمكننا أن نقول إن «محمد شاكر خضير»، مخرج مسلسل «تحت الوصاية»، الذي انتهى عرضه مؤخرًا من خلال الماراثون الرمضانى وأحدث فيضًا هائلًا من ردود الأفعال، التي أجمعت على أنه الأفضل والأجمل والأروع والأكثر قيمة وعمقًا وتأثيرًا في سباق المسلسلات المعروضة.. هل يمكننا أن نقول إن مخرجه ينتمى إلى ذلك التيار الذي ظهر في الستينيات من القرن الماضى في السينما الفرنسية، وسُمى «سينما المؤلف» أو «الكاميرا القلم»، وشمل مخرجين كبارًا، مثل «فرانو تروفو» و«جان جوك جودار» و«كلود شابرول»، الذين أحدثوا ثورة مدهشة في خلق سينما جديدة تعتمد على التعبير المرئى شكلًا ومضمونًا وأصبحت أساسًا فعالًا وملهمًا لمعظم السينمائيين الكبار في تاريخ السينما العالمية مثل «فيسكونتى» و«فيللينى» و«برجمان»، وفى مصر جاء جيل «رأفت الميهى» و«محمد خان» و«خيرى بشارة» و«داوود عبدالسيد» و«يسرى نصرالله» متأثرين في إبداعاتهم بذلك الاتجاه، الذي ينتصر للغة الخاصة التي تميز ذلك الفن عن الفنون الأخرى، وهى لغة الصورة المرئية التي يعبر السينمائى بأفكاره ومشاعره ومعاناته وهواجسه ورؤيته الفكرية والاجتماعية والنفسية والإنسانية من خلالها؟.. وكما يرى الناقد الكبير «أمير العمرى»، في كتابه الشيق «عالم سينما المؤلف»، إن الكاميرا هنا تصبح بديلًا عن القلم في يد الكاتب، ومن ثَمَّ فإن الفيلم يجب أن يُنسب في هذه الحالة إلى مخرجه لأنه هو الذي يسيطر على أدواته الفنية المختلفة، التي تتحكم في عناصر وتفاصيل الصورة المرئية، وبالتالى فإن صاحب الصورة الفنية هو فنان الفيلم ومؤلفه.. وذلك بالطبع لا يعنى أن يكتب السيناريو بنفسه، بل المقصود أنه يوازى بإبداعه المؤلف الروائى، الذي يعبر عن محتوى روايته عن طريق السرد والوصف والتعبير بالكلمات المقروءة مستخدمًا أدواته الخاصة في الحكى، التي تختلف بالطبع عن أدوات المخرج المعتمدة على بناء درامى يشمل الصورة المرئية التي تحتوى على براعة الاستهلال- التي تناولت الحديث عنها في مقالى السابق- بالإضافة إلى تتابع الأحداث وتصاعدها ورسم الشخصيات بأبعادها المختلفة وإقامة الصراع بشقيه (الخارجى والداخلى) وصولًا إلى الذروة الدرامية.. هذا مع اعتبار أن الدراما المرئية تشمل بالضرورة فنونًا عدة مثل «الفن التشكيلى» والرواية والقصة القصيرة والموسيقى والتصوير والشعر والديكور وفنون المسرح والحوار.. إلخ في بوتقة فنية واحدة يُطلق عليها «الفن السابع».
وبناء على ذلك، وفى ظل التطور المدهش في مفردات التكنيك في الدراما التلفزيونية، والذى حقق طفرة كبيرة للصورة المرئية، بحيث أصبحت لا تختلف عن تكنيك السينما المعاصرة، فصار المبدع الموهوب سواء كان مخرجًا سينمائيًّا أو تلفزيونيًّا يمتلك نفس الأدوات الإبداعية التي يعبر بها عن رؤية بصرية خلاقة تضعه في مكانة رفيعة هي «سينما المؤلف» أو «الكاميرا القلم» التي أشرنا إليها.. فماذا عن توظيف تلك المفردات التكنيكية المشتركة ومدى تأثيرها الجميل في الرؤية الدرامية؟. لاشك أن استخدام عنصرى الزمان والمكان، والذى يميز السينما المعاصرة المبدعة، وكانت تفتقر إليه الدراما التلفزيونية في رحلتها ابتداء من الستينيات، حيث كان تواجد هذين العنصرين هامشيًّا وبدائيًّا ومحصورًا في ديكورات منغلقة ومصنوعة.. أصبح هذا الاستخدام لعنصرى الزمان والمكان المتصل بالأحداث التي يحتوى عليها المسلسل يلعب دورًا خلاقًا في تلك الرؤية الدرامية.. فاقتحام عالم البحار المتسع الغامض المثير.. الغاضب الحانى.. المتوتر الصاخب والهادئ المستقر.. المخيف المفعم بالأسرار والخطايا.. المظلم العاصف العاتى المسيطر الغاشم الذي يتناقض ويتباين مع إرادة بطلة بائسة وشجاعة في تجاوز محنتها.. والباحثة عن جدوى وجودها الإنسانى في ظل قهر وظلم اجتماعى رهيب.. تحاول أن تعلو برأسها فوق سطح الأمواج المتلاطمة آملة في حياة كريمة يتوفر فيها الأمان الكافى لإعالة طفليها خارج نطاق وصاية مجحفة.. وحق ضائع وعدالة مفتقدة.
هذا الاقتحام العاتى للبحر في رحلة تلك المعيلة الشجاعة، والذى يشمل الجزء الأكبر من أحداث المسلسل، لعبت فيه الكاميرا دورًا إبداعيًّا رائعًا بحركتها المتلاحقة الوثابة وحجم لقطاتها وزوايا تصويرها، التي شملت أعماق السفينة وسطحها، مستخدمة إضاءة موحية ولقطات تفصيلية تعكس تعبيرات الوجوه المتباينة وتجسد توتراتها وانكساراتها وعذاباتها وصراعاتها النفسية المحتدمة في إيقاع لاهث متدفق.. وهكذا أسهمت تلك اللغة السينمائية في تجسيد تلاحم واتساق وتوحد بين تلك اللغة سينمائية الجوهر ولغة البحر وطبيعة الشخصيات المتضاربة ومتناقضة الأهواء والرغبات، فمنهم المدمن النزق ومنهم الذي يعانى الحرمان الجنسى العاتى ولا يرى في المرأة المقهورة الوحيدة سوى جسد يروى ظمأه ويحقق ذكوريته العتيدة المغتصبة بفعل تفوقها كقائدة للسفينة.. ومنهم اللص الأثيم الذي يسرقها ثم ينقلب إلى صديق رقيق يدعمها ويساندها.. ومن هنا فإن كاتبى السيناريو والحوار «شيرين دياب» و«محمد دياب» والمخرج «أحمد شاكر خضير» في غمرة تحول هؤلاء الشخصيات من حال إلى حال لا يحاكمونهم.. ولا يبحثون لهم عن مبررات لسلوكهم الغريب والمعوج.. كما لا يبحثون عن نهايات صاخبة وميلودرامية الطابع تحولهم إلى أنماط جاهزة.. وتقسيمات أخلاقية تكشف انحرافاتهم وتمثل أدلة اتهامات تحاكمهم بموجبها.. ومن هنا فإن أهم ما يميز الرسم الجيد للشخصيات أنهم ينعمون بوجودهم الإنسانى بصفتهم بشرًا من لحم ودم وروح ووجدان.
أما منى زكى فتحقق بتجسيدها لدور البطولة ذروة من ذرى الإبداع المهم.
نقلا عن المصرى اليوم