محمد أبو الغار
بالتأكيد أنا لم أكن ممن أطلق عليهم رسامو كاريكاتير صباح الخير العظام «جيل تليفزيونجى»، فأنا أشاهد التليفزيون قليلًا وأساسًا في المباريات، وربما بعض الأخبار في القنوات الأجنبية عندما تكون هناك أحداث مهمة، وبالتالى ففى السنوات الماضية لم يسعدنى الحظ بمشاهدة أي مسلسل، ولذا لا أستطيع التعليق أو الإدلاء بالرأى حول أي منها. أستمع أحيانًا إلى بعض الآراء الإيجابية أو السلبية حول مسلسل معين أو أقرأ عنها في الصحف والسوشيال ميديا، ولا أبدى اهتمامًا لأننى لم أشاهدها.
أنا أحب السينما ولكنى أحب الشاشة الكبيرة، حيث أجلس مُركِّزًا بكل حواسى سعيدًا ومبسوطًا أو متضايقًا أو غضبانًا، ولكن لا يشتتنى تليفون ولا حديث ولا تناول طعام، هذه هي متعة السينما التي تعودنا عليها. أحب المسرح الحقيقى، حيث أتفاعل مع الممثلين وأدائهم وأصفق لهم وأقف لهم احترامًا ولا أعجب كثيرًا بمسرحيات الشاشة الصغيرة. طبعًا الظروف تغيرت والزمن تغير ورؤية أشياء على الشاشة الكبيرة أصبحت مستحيلة في بعض الأحيان.
أذكر جيدًا انبهارى بعدد من المسلسلات في بداية عهدها في التليفزيون في الثمانينيات. أذكر أننى حافظت على مشاهدتى للمسلسل الخالد ليالى الحلمية بأجزائه الخمسة، والذى كتبه أسامة أنور عكاشة بمهارة غير عادية وبحنكة ومعرفة تامة بتاريخ وجغرافية مصر والتطورات التي حدثت في الريف والمجتمع القاهرى، وأخرجه بإبداع إسماعيل عبدالحافظ، وقام ببطولته العظام يحيى الفخرانى وصلاح السعدنى وصفية العمرى
وعبدالعزيز مخيون وسيد عبدالكريم. كانت مصر كلها تشاهد هذا المسلسل ومعها العالم العربى كله، ويستمر الحديث عن الحلقات حتى موعد الحلقة التالية. كانت الناس تشعر بسعادة عظيمة ومتعة من مشاهدة الفن الحقيقى وكانت الناس فخورة بفنانيها الذين أشبعوا نفوسهم.
أتذكر جيدًا مسلسل أم كلثوم الذي أثار العالم المتحدث بالعربية، فمن ناحية كان المسلسل متوالية من الإبداع الفنى المبنى على دراسات مطولة للتاريخ والموسيقى والفن ومن ناحية أخرى هو يحكى عن أهم وأكثر فنانة مصرية دخلت قلوب المصريين جميعًا، بالإضافة إلى اختلاط المسلسل بألحان وأغانى أم كلثوم، وكتبه محفوظ عبدالرحمن وأخرجته إنعام محمد على وقام بالبطولة صابرين وحسن حسنى وأحمد راتب.
لم تكن الفضائيات تصل إلى العالم كله في ذلك الوقت، فقمت بشراء شرائط الفيديو الكبيرة للمسلسل وأرسلتها في صندوق إلى صديقى وتوأم روحى الراحل د. فؤاد ستار، الذي كان يقطن في نيويورك، وبعد نهاية العمل وذهاب الأسرة للنوم كان يشاهد حلقة وحيدًا لأن أسرته لا تعرف العربية، ثم يحدثنى تليفونيًّا وهو يبكى حنينًا للوطن، ونتبادل الحديث عن الحلقة والروعة، ونتذكر حفلات أم كلثوم التي حضرناها سويًّا في الأزبكية وقصر النيل.
لن أسترسل في ذكر مسلسلات الراية البيضاء ورأفت الهجان وزيزينيا وحديث الصباح والمساء وغيرها. هذه المسلسلات كانت قطعًا من الفن الخالص المحكم الرائع الذي يثير الشجن والخيال والأمل، وهذه هي متعة الفن بدون لغو وخطابة ودعاية.
منذ أسبوعين، أصابنى فيروس ندل أدى إلى نزلة شعبية حادة وإرهاق، واضطرنى إلى النوم في السرير مع قليل من الحركة. خلال هذه الفترة ركزت على قراءة عدد من الروايات بعضها متميز وبعضها متوسط، واقترحت ابنتاى هنا ومنى أن أشاهد مسلسل العرش على الآى باد في السرير، وخاصة أن النوم كان يجافينى كثيرًا، والمسلسل من إنتاج الشركة الأمريكية نتفليكس عن عصر الملكة إليزابيث، وتم إنتاجه بين عامى 2016 و2023. المسلسل من 6 أجزاء، وكل جزء به 10 حلقات، وتم تصويره في بريطانيا في القصور والحدائق الملكية. وحيث إن الفترة التي جلست فيها الملكة إليزابيث على العرش طويلة جدًّا، فقد قام بالتمثيل ثلاث مجموعات من الممثلين لكل مرحلة عمرية، فهناك إليزابيث الشابة وإليزابيث المرأة الناضجة وإليزابيث الكهلة وقامت بأداء كل شخصية ممثلة مختلفة وينطبق ذلك على الجميع.
المسلسل يحكى عن العرش البريطانى بدقة وسلاسة وبساطة محافظًا على كل التفاصيل التاريخية الممكنة. وفيه نتعرف على علاقة العرش بمجلس الوزراء والبرلمان البريطانى، ثم مدى قربها من الشعب وحب الشعب لها. يحكى عن العلاقة بين الملكة ورئيس الوزراء بدءًا من تشرشل ومرورًا بمارجريت تاتشر وويلسون وغيرهم، وهى العلاقة التي توضح أن القرار السياسى دائمًا في يد الشعب في البرلمان ومجلس الوزراء، ولكنه متأثر بطريقة ما برأى الملكة، وخاصة في الأزمات الكبرى، ويشير إلى استخدام الملكة والعائلة في تأثير دول الكومنولث لاستمرار ارتباطها بإنجلترا.
يحكى بكل صراحة عن الخلافات والفضائح والغراميات الملكية، ويحكى عن الملكة وعلاقتها بزوجها وتشارلز، والتى تظهر بصورة مهزوزة جدًّا، وأنه كان على علاقة مستمرة لم تتوقف من قبل الزواج مع باميلا التي تزوجها لاحقًا، كذلك عن الأمير فيليب زوج الملكة وشخصيته التي تغيرت وعن الأميرة آن بطلة الفروسية التي لم توفق في زواجها وأخوات تشارلز الذين يغارون منه.
وأفرد المسلسل لشخصية ديانا مساحة واسعة جدًّا عن جاذبيتها وشخصيتها وكم التعاسة التي كانت تعيشها في القصور الملكية وكيف خرجت عن الطوق، وفى النهاية يُظهر علاقة محمد الفايد الذي صور على أنه مصرى غنى عبيط وفرحان بفلوسه ومحاولته التقرب من العائلة الملكية وابنه دودى حتى انتهى الأمر بالقصة الرومانسية بموت دودى وديانا.
الحياة الملكية مثيرة، ويلعب دور السكرتير الخاص للمكلة دورًا شديد الأهمية في الحياة والعمل ولا تتحرك إلى بعد نصيحته وأحيانًا أوامره، وهو مسؤول عن حمايتهم وحماية النظام الملكى الأسطورى وتقاليده. وفى وسط ذلك كله يبدو واضحًا الدور المهم الذي تلعبه الصحف البريطانية وتأثيرها بالغ النفوذ، الذي يؤثر على كل سياسى وعلى رئيس الوزراء والملكة والعائلة كلها. الحرية تامة لهذه الصحف في نشر أخبار وحقائق عن الجميع أدت إلى فضائح ونهاية أوضاع سياسية.
العلاقة بين مارجريت تاتشر والملكة صُورت بطريقة بديعة. والسيناريو بديع ومحكم وقوى وجاد وبسيط وفكاهى أحيانًا، وساخر بطريقة غير مباشرة من العائلة المالكة. التصوير تحفة والإخراج مذهل. بصراحة هذا المسلسل قمة في الإبداع الفنى الذي لم أشاهده من قبل، وأرجو أن يراه ويسعد به معظم المصريين. الفن الحقيقى هو الذي يسعد الإنسان ويرفع روحه المعنوية وهو الذي يجعله يعرف فعلًا أنه إنسان.
قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك.
نقلا عن المصرى اليوم