أحمد الجمال
ما خلقت ميسرًا له هو النبش فى الجذور وعنها، ولذلك نادرًا ما أساهم فى مناقشة الأحداث الجارية، ويستحيل أن أتحمل وزر الفتاوى السياسية ولا التحليلات الاستراتيجية، التى لها من هم ميسرون لها، ولا يضيرهم أن تأتى الأيام بما لم يتوقعوه أو بما أكدوا أنه هو «السيناريو» المرجح، أو أن تأتى بهم أنفسهم وهم متلبسون بالتناقض بين فتاواهم.
ولو قيض لأحد أن يعمد إلى رصد ما يكتبه البعض فى السياسة والاستراتيجية وما تفرع عنهما، فسيجد أن منهم مَن يغير موقفه ورأيه تمامًا وكأن شيئا لم يكن، والأمثلة على ذلك فادحة، تعود- على الأقل- للموقف من العدوان الأمريكى على العراق، حيث أطلق على بعضهم «كتاب- جمع كاتب- المارينز» أو «أولاد كوندا»؛ أى «كونداليزا رايس»، وصولًا إلى الموقف من توجهات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
لذا أقول: ما علينا، لأستكمل ما وعدت به من انطباعات سودانية، لأقرر بدايةً أننى شعرت بالضآلة العلمية، بل الوطنية، لأننى كنت قد هجرت ما أمسكت بخيوط بداياته زمن الدراسة فى قسم التاريخ، وكنت أجلس تلميذًا أمام أستاذى وصديقى الدكتور يونان لبيب رزق، المتخصص فى السودان، وأستاذى وصديقى الدكتور السيد مصطفى سالم المتخصص فى اليمن، رحمهما الله.. والضمير عائد على أستاذى بالطبع.
وهنا أزعم وبقوة أن الالتفات فى الستينيات من عميد المؤرخين المصريين فى تخصص التاريخ الحديث والمعاصر أستاذى الكبير أحمد عزت عبدالكريم إلى دفع كثير من طلاب الدراسات العليا لدراسة تاريخ الدول العربية، ليتخصص عبدالعزيز نوار فى العراق، وجمال زكريا قاسم فى الخليج، والسيد مصطفى سالم وجاد طه فى اليمن، ويونان لبيب فى السودان، ويتخصص عبدالرحيم عبدالرحمن فى العثمانى، إلى آخر تلك السلسلة الذهبية التى يتضاعف قدرها، جراء ما يحدث الآن فى تلك الأقطار، ناهيك عن دفع كثيرين آخرين إلى دراسة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر، بعد أن كان التاريخ السياسى هو وحده العمود الفقرى للدراسات التاريخية.
شعرت بالضآلة لأننى لم أبادر وأكتب عن حضارة مروى بمجرد ذكر الاسم فى نشرات الأخبار، حيث كان لمصر أبناء من جيشها هناك فى مهام تدريبية متفق عليها بين البلدين، ولم أبادر بالكتابة عن التركيبة السودانية، وماذا عن الخرطوم وأم درمان ودارفور ودنقلة والنوبة السودانية وشرق السودان.. وغير ذلك مما تواتر ذكره خلال تغطية الأحداث المدمية لكل قلب مصرى مع كل قلب سودانى.
وكنت قد أشرت إلى أقباط السودان ودورهم، وتوقفت مع وعد بالإشارة إلى التصوف فى السودان، وهى كتابة موجهة للقارئ غير المتخصص فى تاريخ السودان، والذى لا يملك الوقت للاطلاع على مصادر المعلومات، سواء الرقمية أو فى الكتب، ويعد كتاب «الطبقات فى خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء فى السودان»، الذى ألّفه الشيخ محمد النور ود. ضيف الله، الذى ولد عام 1726 ميلادية وتوفى عام 1809 فى السودان، مصدرًا أساسيًا لجزء أساسى من تاريخ انتشار الإسلام فى السودان وجواره الإفريقى.
وما يهمنا فى هذا الصدد ليس ما حفل به الكتاب من كلام عن خوارق الأولياء وكرامات مشايخ الطريق، بقدر ما هو البحث عن مدى تجذر المنهج الصوفى فى التفكير والسلوك لدى أهل السودان.. يتساوى فى ذلك المواطن البسيط الأُمّىّ العادىّ مع زعيم القبيلة وسلطان المنطقة وملوك الممالك، بل مع القادة العسكريين ورؤساء الوزارات ورؤساء الجمهورية!.
ثم إدراك أن الإسلام لم ينتشر بالغزو أو الفتح ولم ينتشر بالفقهاء بل انتشر بالمسلك الصوفى والتجارة. وتشير المراجع إلى أن أكثر من أربعين طريقة صوفية تنتشر فى السودان، ومن أشهرها القادرية والختمية والمهدية والتيجانية والسمانية والبرهانية والتسعينية والدندراوية والإدريسية والعزمية وغيرها، وهى طرق ممتدة فى ربوع السودان وما جاوره شمالا فى مصر وشرقًا لإريتريا وإثيوبيا وغربا إلى تشاد والنيجر ونيجيريا.
ولكل طريقة انتشارها وكثافة مريديها فى مناطق السودان، حيث يقال إن السمانية والقادرية لهما ثقل فى وسط السودان وحول الخرطوم، ثم تتركز التيجانية فى دارفور غربا وكردفان فى الجنوب الأوسط، بينما تنتشر الختمية فى الشرق والشمال.. وحسب ما نشره موقع «رصيف 22»، فإن للتصوف فى السودان أثرا بالغا على الحياة الاجتماعية.
لأن المنهج الصوفى يرتب حياة الفرد الشخصية ومعاملاته مع مجتمعه، وهو خال من العصبية والعنصرية والتحزب، فالصوفى إنسان مسالم ذاكر محب وعابد زاهد وعامل كادح، دون أن تعنى تلك الإيجابيات وجود مثالب عديدة شأن كل الوجود الإنسانى.
والسؤال الذى يلح الآن فى ذهنى هو: لماذا تغيب الجسور الروحية العميقة بين الصوفيين فى مصر- وهم بالملايين- وبين أقرانهم فى السودان- وهم بالملايين-؟.. ولنا أن نتخيل هذا الوصل الوجدانى العريض والعميق منعكسا على علاقات البلدين فى مواجهة عوامل الفرقة والحساسية والإحن التاريخية!.
وللحديث صلة.
نقلا عن المصرى اليوم