القمص يوحنا نصيف
(المقال المنشور في عدد الكرازة الأخير - الجمعة 21 أبريل 2023م)
    للقديس إبيفانيوس أسقف قبرص (315-403م) مقالة/عظة طويلة شيِّقة، تحت عنوان "نزول المسيح إلى الجحيم"، وهي تتكوَّن من خمس وعشرين فقرة طويلة.. يسعدني أن أقدّم في هذا المقال الفقرة التاسعة من تلك المقالة، مع مقتطفات من الفقرة السابعة كتمهيد للموضوع..

* ملحوظة: المنشور في الكرازة هو جزء مختصر من الفقرة التاسعة، إذ أنّي أرسلت للنشر فقط بعض الفقرات، لتناسِب المساحة المُتاحة للمقال بالمجلّة)
    بوجه عام مقالة القدّيس إبيفانيوس المُشار إليها، هي مقالة لها طابع شعري وأدبي بديع، ومملوءة بالخيال الخصب والاستعارات والكنايات، والمحسِّنات البديعيّة، والتأملات الجميلة.. لذلك لا يمكن أخذ كلّ ما جاء فيها من كلام كحقائق حدثت بالفِعل، ومع هذا فهي لا تتعارض مع روح الإنجيل، ولا تتناقض معه..!
---

    7- "لمّا كان المساء، جاء رجل غنيّ من الرامة اسمه يوسف، هذا تجرّأ ودخل إلى بيلاطس، وطلب جسد يسوع" (مت27: 57 - مر15: 43).

    جاء المائت إلى المائت، يطلب أن يأخُذ إله البشر!
    الجبلة تطلب من الجبلة أن تأخُذ جابل الكلّ!
    العُشب يطلب من العُشب أن يأخُذ النار السماويّة!
    القطرة العدَم تطلب من القطرة الأخرى أن تُعطي المحيطَ بأسرِهِ!
    بالحقيقةِ هو غنيٌّ، لأنّه أخذ شخص الربّ بكامله.. لأنّه استحقّ أن يأخُذ اللؤلؤة الثمينة.
    غنيٌّ لأنّه أخذ في يديه خزينةً، تحتوي على الذخيرة الإلهيّة كاملةً!
    كيف لا يكون غنيًّا هذا الذي حصل على الحياة وخلاص العالم؟!
    كيف لا يكون يوسف غنيًّا، بعد أن تقبَّل كهديّةٍ ذاك الذي يُغذِّي الكلّ ويدبّرهم؟!

    9- شيئًا واحدًا أطلب منك يا سيّدي (يوسف يطلب من بيلاطس)، غرضًا صغيرًا جئتُ من أجله:
    أعطِنِي أن أدفن جسد ذلك المائت، الذي حكمتَ عليه بالموت، جسد يسوع الناصري، يسوع الغريب، يسوع الفقير.. يسوع المُعلَّق عريانًا، يسوع ابن النجّار الحقير.. الغريب المجهول بين الغرباء، المُعلَّق والمُزدرى به بالحقيقة.
    أعطِني هذا الغريب، لأنّه جاء من كورةٍ بعيدة، من أجل أن يُخلِّص الإنسان، المتغرِّب عن وطنه السماوي.
    أعطِني هذا الغريب، الذي نزل إلى الأرض المُظلِمة، من أجل أن يَرفع الغريب.
    أعطِني هذا الغريب، لأنّه وحده غريبٌ بالحقيقة.
    أعطِني هذا الغريب، الذي لا نعرف بلده، نحن المتغرّبين.
    أعطِني هذا الغريب، الذي نجهل طريقه ومكانه، نحن الغرباء.
    أعطِني هذا الغريب، الذي عاش حياة المغترب بين المتغرّبين.
    أعطِني هذا الغريب، الذي ليس له هنا ما يسند إليه رأسه.
    أعطِني هذا الغريب، الذي لا سقف له، ووُلِدَ في مغارةٍ كغريبٍ بين الغرباء.
    أعطِني هذا الغريب، الذي وهو بعد طفل خارج من المزود، هرب لكي ينجو من هيرودس.
    أعطِني هذا الغريب، الذي تغرَّب في أرض مصر، وهو بعد في الأقماط.

    أعطِني ذاك الذي لم يكن له لا مدينة، ولا قرية، ولا بيت، ولا مسكن ثابت، ولا أيّ قريب من جنسه، لكنّه ساكن مع أمّه في كورةٍ غريبة، مع أنّه يحوي كلّ شيء.

    سيّدي، اسمح لي أن أستر جسد المعلَّق عريانًا على خشبة الصليب، الذي ستر عُري طبيعتي الخاصّة.
    أعطِني أن أدفن ذاك المائت، الذي دفن خطيئتي في مياه الأردن.
    أتوسَّل إليك من أجل مائت حُكِمَ عليه من الجميع، سُلِّمَ على يد تلميذه، تركه أصدقاؤه، طرده أخوته، وضربه عبده!

    أتوسّل إليك من أجل مائت حُكِمَ عليه من قِبَل هؤلاء الذين حرّرهم من العبوديّة، جُرِّحَ من قِبَل الذين شفاهم، تركه تلاميذه، وحُرِمَ حتّى من أمّه.

    أطلب إليك يا بيلاطس، من أجل مائتٍ مُعَلَّق على الصليب، ليس له أحد يخدمه، لا أب على الأرض، لا صديق، لا تلميذ، لا أقارب، لا أحد يدفنه. هو وحده الابن الوحيد للآب الوحيد، الإله في هذا العالم، الذي لا إله سواه.
+   +   +
(المرجع: كلمات آبائيّة 2 - منشورات النور 1995)
القمص يوحنا نصيف