مدحت بشاى
منذ بدايات العمل في إنشاء وسائل إعلامية دينية حديثة مستفيدة بكل تقنيات العصر، كان الأمل دومًا أن تذهب جهود أهل تلك النوعية من الإعلام لتكوين منابر ثقافة مسئولة تتعاطى في تناولها كل الملفات والقضايا التي لها علاقة بالهوية والثقافة والتقاليد والطقوس والعبادات والآداب وكل قوانا الناعمة وحقوق الإنسان بمعناها الأكثر شمولًا مما يعضد كل جهود العناية بكل كائن بشري، فما قيمة الشمعة دون الشعلة وما قيمة الإعلام إن لم يكن للإنسان؟..
عبر توجيه للرئيس "السيسي" لوزير الأوقاف قال "شوفوا تعملوا ندوة أو مؤتمر لمدة أسبوع أو أكتر علشان يبقى النقاش فى موضوع الشأن العام" ويبقى من منظور اجتماعي وسياسي وديني وثقافي وفكري، بس خلونا نشوف ده، وأرجو إن الإعلام يغطى ذلك بعد إعداد جيد لهذا الموضوع من الأوقاف ومشيخة الأزهر علشان الناس تسمعنا وإحنا بنتكلم يعنى إيه شأن عام لأن ده أمر مهم قوي وخطير جدًا في ظل الظروف اللى بتمر بمنطقتنا وبمصر، وبالتالي محتاجين نتكلم مع شعبنا إن المواضيع بيتم تناولها بشكل خلينا نفرد لها وندي فرصة للكل يتكلم ويسمع، نظموها وأنا هحضر بس أرجو يكون فيه إعداد لأن مش هيكون بس على أد الدين، كان ممكن أقول لأجهزة الدولة تعمله لكن أنا قلت إن أهل الدين أولى بالحديث عن الشأن العام..
ومعلوم أن الشأن العام في النهاية هو الأمر الّذي يستدعي الدخول في نقاشات تؤدي بالأخير إلى صياغة الرأي العام..
ويفرق بعض الباحثين بين الأماكن التي تصوغ الرأي العام فقط، وتلك التي تصوغ الرأي العام وتهيئ القوى لتنفيذه، ويناقش عادة في الحيز العام قضايا أخلاقية واجتماعية وليس فقط سياسية.
ولعل الإعلام الديني بكل وسائطه وأدواره ومناقشته قضايا نبذ الكراهية ومجابهة كل أصحاب دعاوى التعصب المجنونة هي من أهم قضايا "الشأن العام" مادام القائم على تنظيم مثل تلك الفعالية واحدة من مؤسساتنا الدينية التي ينبغي أن تدرك مسئولياتها..
فبالتأكيد عندما تتحول بعض وسائل الإعلام لأداة فاعلة، وأن تكون الأبرز في إشعال النزاعات والصراعات والحروب، فهي تضع البشر أمام خيارين: إما الإذعان للثقافة الواحدة المهددة للحضارات، وإما تبني ثقافة المشاركة وهو الخيار الذي اختارته الوسائل الإعلامية المعتدلة، والتي نأمل أن تكون الإعلامية الدينية في صدارتها..
لاشك أن الإعلام يعكس في النهاية أخلاق مجتمعه، بارتكازها أولًا على أخلاقيات كل من المؤسسة الإعلامية والأشخاص العاملين فيها، وأرى في انعكاس مشاكل الإعلاميين الأخلاقية وخروجهم على القيم والمثل السليمة تشويهًا لوظيفة الإعلام، فهي تؤدي دورًا يضاهي دور التربية البيتية والمدرسية والجامعية، فهي ينبغي أن تهدف إلى بناء مجتمع متميز أخلاقيًا ومتطور فكريًا..
ويبقى السؤال يا جماعة الحوار الوطني: ماذا يمكن أن تكون خطوات الذهاب لبناء إعلام ديني بمحددات روحية معينة لتفعيل رسائل الأديان ودعواتها العظيمة للناس للتعايش بسلام ومحبة وإعلاء للقيم الأخلاقية، وفي مقدمتها نبذ الكراهية ومقاومة روح التعصب؟
لقد نشرت مجلة "ساينس دايركت" العلمية مؤخرًا دراسة تكشف عما اعتبرته "السبب الحقيقي" لانتشار ظاهرة "التعصب الديني" حول العالم، وأظهرت نتائجها أن زيادة نسب "الأصولية الدينية" أو التعصب والتطرف الديني لدى أي شخص، يرجع إلى خلل "عضوي" في منطقة معينة في الدماغ..
وأظهرت الدراسة، التي أعدها "جوردان جرافمان، من جامعة "نورث ويسترن" الأمريكية، أن المعتقدات الإنسانية والمعتقدات الدينية، بطبيعة الحال، هي جزء من المخزون المعرفي والاجتماعي، الذي يميز البشر عن الكائنات الأخرى، وتتأثر العمليات الإدراكية والاجتماعية بتطور مناطق معينة في الدماغ البشري..
وكان الكاتب والمفكر الشهير الفرنسيّ فولتير (1694ـ 1778) قد عرّفه في "مقبرة التعصّب" (1767)، حيث قال "إنّ التعصّب هوس دينيّ فظيع، مرض معدٍ يُصيب العقل كالجدري، وهؤلاء المتعصّبون قضاة ذوو أعصاب باردة يحكمون بالإعدام على الأبرياء الذين لم يفكّروا بنفس طريقتهم ولم يؤمنوا بمعتقدهم.. وإذا كان الشكّ هو جزء من الإيمان ، فإنّنا لا نتحدّث عن إيمان بل عن معرفة، والمتعّصب يدّعي المعرفة وهو بالتالي لا يساوره أيّ شكّ ولا يحبّ المناقشة لأنّه يعتقد أنّ رأيه لا يحتمل أيّ نقد، فيبدو تشبّثه حالة مماثلة للعُصاب القهريّ، وبحسب "فرويد"، هناك مماثلة بين الدين وعُصاب الوسواس القهريّ في علاقتهما بالمحرّم والمقدّس والتشبّث بهما وفقًا لحتميّة داخليّة لا تقبل الجدل وكذلك الأمر بالنسبة إلى التعصّب، فلكي يهرب الإنسان من التشتّت النفسيّ (العُصاب والفوبيا والهذيان هي أليّات تفاعل له) يلجأ إلى تقاليد دينيّة تتمحور أهدافها على أحاديّة المطلق معتبرةً أنّ التعدديّة تُشتّت وتبدّد، لذلك تقدّم هذه التقاليد دلالات موحّدة لحقيقة غير قابلة للمناقشة".
نقلا عن الدستور