سامح فوزي
نحتاج بالتأكيد إلى نظرية سياسية جديدة تعيننا على فهم الواقع المضطرب فى المنطقة العربية فى ضوء ما يحدث فى السودان منذ نحو ثلاثة أسابيع، وما تشهده العديد من دول المنطقة منذ فترة، لأننى أظن أن النظريات التى نعرفها لم تعد كافية لتفسير ما حدث، ويحدث، ونتوقع حدوث المزيد منه مستقبلا. فقد باتت مفاهيم من قبيل الدول الوطنية، مؤسسات الدولة، التدخل الخارجى، العلاقات العسكرية المدنية، وغيرها بحاجة إلى مراجعة عميقة، حتى نتبين حجم التحديات الراهنة، وما سوف نراه فى المستقبل، حيث تعانى العديد من دول المنطقة مما يمكن أن نطلق عليه «الفشل السياسى»، متعدد الأبعاد والمستويات، والذى يرافقه تداعى الدولة، الكيان والمؤسسات والبناء الاجتماعى والاقتصادى، وباتت له سمات متشابهة أبرزها: تعدد صور الصراع السياسى المسلح الذى تمارسه أطراف محلية، وتغذيه دول إقليمية ودولية بحثًا عن النفوذ والثروة.
أدى هذا الصراع إلى تمزيق عُرى الدولة الوطنية، التى خرجت من رحم الاستعمار منذ ما يزيد على سبعين عامًا، وبينما كان الجيل الأول من الذين قادوا الحركة الوطنية تؤرقهم بشدة التبعية للمستعمر القديم، تجاوز المشهد الحالى مفهوم «التبعية»، الذى يقوم على مركز ذى نفوذ، وأطراف مهمشة، إلى حالة «الاستباحة» التى تتمثل فى تحول الدولة إلى ساحة صراع بين قوى إقليمية ودولية عديدة، لكل منها وكلاء محليون يتصارعون بالنيابة عنها، وبلغ نهب ثروات الدول مرحلة تفوق ما كان يحدث إبان الاستعمار الأجنبى المباشر، والأمثلة على ذلك كثيرة من جميع أرجاء المنطقة العربية.
من ناحية أخرى ازداد انغماس الدولة العربية فى مرحلة الفوضى غير الخلاقة، فقد طرحت منذ نحو خمسة عشر عاما وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس، أستاذة العلوم السياسية بجامعة ستانفورد، مفهوم الفوضى الخلاقة لإحداث التغيير فى المنطقة، لكنها آلت إلى فوضى غير خلاقة، التى تتمثل فى اتساع نطاق الصراعات المسلحة، والتسبب فى كوارث إنسانية للمدنيين، وحالة من التفسخ الاجتماعى، وتصاعد الأزمات الاقتصادية مع لهيب نيران الحرب.
وتبدو المنطقة أكثر هشاشة من حيث البناء السياسى أكثر من أى وقت مضى، إذ إن هناك دولا فقدت قدرتها على الحفاظ على إقليمها الجغرافى، وأخرى تداعت مؤسساتها السياسية، وتراجعت معدلات التنمية فيها على نحو مريع، وسط ضغوط اقتصادية ومالية متصاعدة، وتشهد صورا من انتهاكات حقوق الإنسان غير مسبوقة. ويكفى القول إن الحديث عن أهداف التنمية المستدامة، وهى تيمة هذه المرحلة دوليا، صارت ترفا فى دول لم تعد قادرة على أداء أبسط وظائف الدولة القومية التى يدرسها طالب مبتدئ فى العلوم السياسية.
فى هذا السياق يبدو أن التوجه المصرى الخارجى، رغم ما يمكن أن يرد عليه من ملاحظات أو انتقادات، يتسم بالوعى، وإدراك طبيعة التحولات التى تشهدها دول المنطقة، واتجه منذ فترة مبكرة إلى التأكيد على أهمية الحفاظ على الدولة، وحماية المؤسسات العامة، ومواجهة فيروسات التفكيك التى تنتشر فى المنطقة، وتضرب جيوشها الوطنية، وتفشى كيانات دون الدولة تحمل السلاح، ليس فقط تنظيمات إرهابية، ولكن أيضا مليشيات وتشكيلات مسلحة تتصارع على السلطة.
وفى ضوء التأكيد على أولوية الحفاظ على الدولة العربية، يظل الحديث عن مثلث الديمقراطية والتنمية والمواطنة أساسًا لإعادة انتاج دولة عربية فاعلة، وقادرة على أداء وظائف الدولة الحديثة.
نقلا عن الشروق