فاطمة ناعوت
قبل سنوات طوال، منحتنى «منصّة» تويتر Twitter علامة التوثيق Verification mark تلك العلامةَ الزرقاء التي تُمنح للشخصيات العامة لتوثيق صفحاتهم الحقيقية، وحمايتهم من التزوير. وكذلك فعلت منصتا: فيس بوك وإنستجرام، فقد منحتنى كلتاهما تلك العلامة الزرقاء قبل سنوات. وفائدةُ تلك العلامة حفظُ الحقوق الفكرية والقانونية للصفحة حتى لا يكتبَ أىُّ شخص كلامًا وينسبه لشخصية عامة، مما قد يعرضها للمساءلة القانونية. فأنا مسؤولة فقط عما يُكتب على حساباتى الموثقة، وليس على أي حساب مزور قد ينتحل اسمى. لأن سهولة إنشاء حساب بأى اسم من شأنها أن تخلق الفوضى والتشتت، فأىُّ شخص بوسعه أن يُنشئ حسابًا باسم أحد رؤساء العالم ويكتب عليه ما يشاء. هنا تبرز أهميةُ الحسابات «الموثقة» Verified لأنها تحمى الشخصيات العامة من تزوير الحسابات. وفجأةً ودون مقدمات، قررت منصةُ «تويتر» أن تجعل تلك العلامة بمقابل مادى سنوى!، بعدما كانت مجانية كما هو الحال مع بقية المنصات حتى اليوم. وقامت تويتر بحذف «جميع» علامات التوثيق من صفحات الشخصيات العامة، إلا مَن يوافق على دفع ٣٥٠٠ جنيه سنويًّا!.
بعضُنا وافق على الدفع، وبعضنا رفضَ الفكرة، وأنا منهم، لأن الأمرَ هكذا قد تحوّل إلى تجارة طبقية لم ترُق لى. ومع هذا، دعونى أقرُّ بأهم ما يميز منصة تويتر عن بقية منصات التواصل الاجتماعى. إنه: «فلسفة الاختصار»، فكلُّ تغريدة في تويتر يجب ألا تتعدى ١٤٠ حرفًا!. حرفٌ وليس كلمة. يعنى مجردة فقرة صغيرة من بضعة أسطر. وتلك هي عبقرية الحذف، والتقشف في الثرثرة: أن تعبر عن أفكارك في أقل عدد من الكلمات.
دعونى أحكى لكم عن «أقصر رسالة عرفها التاريخ». لم تكن تلك الرسالةُ من بضعة حروف، ولا حتى حرفًا أو حرفين!. بل مجرد «علامة ترقيم»!. كان ذلك عام ١٨٦٢، حين سافر «فيكتور هيجو»، الروائى الفرنسى الأشهر، للاستجمام على ضفاف أحد الشواطئ، بعد شهور من الإجهاد أمضاها في تأليف روايته العظمى «البؤساء» Les Misérables، التي بلغ حجمُها ١٢٠٠ صفحة من القطع الكبير. سلّم مخطوطة الرواية لدار النشر، ثم سافر. وبعد أيام من الطباعة والتوزيع، أرسلَ «فيكتور هيجو» للناشر تلغرافًا مكتوبًا فيه فقط علامة استفهام: (؟)، فردَّ عليه الناشرُ بتلغراف آخر مكتوب فيه فقط علامة تعجب: (!). هل خمّنتم المقصودَ في التلغرافين؟. حسنًا، علامةُ الاستفهام تعنى: (ما أخبار مبيعات الرواية؟). وعلامة التعجّب أرسلها الناشرُ ليقول: (المبيعاتُ تفوق الخيال!).
يُدركُ كُتّابُ الأعمدة الصحفية «صعوبةَ» الاختزال والاختصار، مثلما يدركُ المبتدئون «سهولةَ» الإطناب والتكرار والحشو (كما أفعلُ الآن:). الاختصارُ في الكلام أصعبُ من الثرثرة. لهذا اختتم الرئيسُ الأمريكى «إبرام لنكولن» إحدى خُطبه قائلًا: «معذرة على الإطالة، فلم يكن لدىَّ الوقتُ للاختصار!»، وكتبها من بعده الزعيم «سعد زغلول» في إحدى رسائله. الإيجازُ سمةُ الأدباء الكبار. ونذكرُ الشاعرَ الأمريكى «إزرا باوند»، الذي حذفَ من قصيدة صديقه الشاعر البريطانى «ت. س. إليوت» أكثرَ من نصفها؛ لتغدو «الأرضُ الخراب» The Waste Land في ثوبها المُختزل (٤٣٤ سطرًا)، إحدى أشهر وأعظم قصائد التاريخ.
الإيجازُ هو البلاغةُ. وأعظمُ مثال على دِقّة القول الموجز ما قالته «بلقيس» ملكة سبأ حين شاهدت عرشَها وقد جِىء به محمولًا. سألها «الملكُ سليمان»: «أهذا عرشُك؟»، وكان به اختلاف طفيفٌ في ترتيب الأحجار الكريمة، فلم تقل: (نعم هو)، ولا قالت: (لا، ليس هو)، ولم تقل: (العرشُ به بعض الاختلافات!)، إنما أوجزت كلَّ ما سبق في إجابة عبقرية موجزة من كلمتين فقط، وقالت: (كأنّه هو!)، وكانت تلكما الكلمتان واحدةً من أبلغ عبارات القرآن الكريم.
ولا تقتصرُ عبقريةُ الحذف على الإبداع الأدبىّ وفنون القول والكتابة وحسب، بل تمتدُّ لتشمل الفنونَ الأخرى. فهذا «بابلو بيكاسو» الرسامُ الأشهر يقول: «تتكوّن اللوحةُ عادةً من بناء طبقاتٍ لونية فوق طبقات، على نحو تراكُمىّ، حتى تكتمل. أما في مدرستى، فاللوحةُ تتطوّر عن طريق حذف الطبقات والخطوط؛ حتى تصلَ إلى تجريدٍ مُتقشّفٍ للهدف المرسوم؛ بأقل عدد من الخطوط والمسطحات اللونية». وهذا بالفعل ما تعلمناه على مقاعد قسم العمارة بكلية الهندسة. أن نرسم أعقدَ التفاصيل، بأقل عدد من الخطوط.
أعظمُ قصائدِ التاريخ هي التي لا تقولُ كثيرًا، وتُخفى أكثرَ مما تعلن. تكتنزُ بالدلالات والرموز بأقل عدد من الكلمات. وأعظمُ لوحات الدنيا تقتضبُ في الخطوط ولا تُثرثرُ في اللون. وأعظمُ السوناتات الموسيقية تضِنُّ بالنغم حتى تستنطقَ الموسيقى من أحاسيس سامعيها. وأجملُ النغمات لا تظهر إلا بمقدار مساحات الصمت التي تجاورُها. تحيةً لابنى «عمر»، الذي قد يمرُّ اليومُ بطوله دون أن يقول إلا بضع كلمات شحيحة، لكنه مع ذلك يقولُ ويرسمُ ويغنى بأبلغ المعانى وأجمل الألوان وأعذب النغم.
نقلا عن المصرى اليوم