عاطف بشاي
يُعتبر «تشيكوف» (29 يناير 1860- 15 يوليو 1904) هو أمير وساحر القصة القصيرة ورائدها الأهم والأعظم فى تاريخ الأدب العالمى على مر العصور، بالإضافة إلى كونه مؤلفًا مسرحيًّا بديعًا وروائيًّا رفيع الشأن استطاع عبر مؤلفاته العديدة المبهرة أن يحفر اسمه فى ذاكرة وضمير الإنسانية ووجدان القراء والنظارة على مدى الحقب الزمنية المتعاقبة، وتتميز إبداعاته المختلفة بالمهارة البالغة فى المزج الرفيع بين التراجيديا والكوميديا وحسه المرهف فى تصوير الشخصيات التى تنتمى إلى شرائح اجتماعية مختلفة، وهو بارع فى تجسيد ملامح بؤس ومعاناة البائسين المطحونين ونفوسهم المعذبة بمشاعر الحب والغربة والقهر والفقر فى فهم عميق للطبيعة البشرية.. وقدرته الهائلة فى الكشف عن خفايا النفس الإنسانية وكشف النقاب وإزاحة الأقنعة عن وجوه البشر.. وفضح عوراتهم ومثالبهم المتمثلة فى ضيق الأفق وبلادة الحس والسخرية من التفاهة والجبن والقسوة وكل ما يجرف الإنسان بعيدًا عن إنسانيته.. مستخدمًا الرمز لتقوية التوتر الدرامى.. والحبكة الداخلية المرتبطة بالعالم النفسى للأبطال، والتى توحى للقارئ بأن ثمة معنى آخر يختفى داخل المعنى المكتوب، وعليه هو أن يكتشفه ويقرأ ما بين السطور.. كما يتميز أسلوبه بالقدرة الفذة على ملاحظة التفاصيل الدقيقة، إلى حد أنه صرح مرة بأنه يؤمن بأن العبقرية تتركز فى قوة الملاحظة.
■ ■ ■
ولـ«أنطون تشيكوف» رواية قصيرة بديعة هى «عنبر رقم 6»، تدور أحداثها فى مستشفى للأمراض العقلية، ولأنه كان طبيبًا، وظل يمارس مهنته، ولم يتفرغ تمامًا للأدب، فقد كان مهمومًا فى البحث والتوغل فى أعماق النفس الإنسانية.. وبرع فى تحليل الأبعاد النفسية للشخصيات وسلوكها وعلاقتها بالآخرين فى إيجاز وتكثيف ورشاقة وعمق.. لذلك يُعتبر أدبه من أجمل الأساليب فى اللغة الروسية.
بطل الرواية طبيب نفسى عجوز يعمل بالمستشفى الذى يصفه «تشيكوف» بالبشاعة، فهو بالغ القذارة، يكتظ بأكوام النفايات، التى تنبعث منها رائحة خانقة، والعنبر أقرب إلى حظيرة حيوانات.. به خمسة مرضى، منهم «إيفان» الشاب، وهو فى الثالثة والثلاثين من عمره.. كان يعمل محضرًا فى محكمة، يعانى جنون الاضطهاد، مصاب بعصاب الوسواس القهرى.. يرقد فى سريره متكورًا كالكعكة.. يروح ويجىء فى العنبر جيئة وذهابًا من ركن إلى ركن.. ولا يجلس إلا نادرًا.. دائم الانفعال والتوتر والاضطراب والامتعاض والسخط. يلخص «تشيكوف» شخصيته أنه يؤرقه انتظار غامض وغير مجدد.. دخل المستشفى بعد تفاقم حالته التى يتوهم فيها اعتقاله دونما سبب واضح.. فهو لم يرتكب جرمًا.. ولم يسبق له أن اتُّهم فى شىء يستحق عليه عقابًا.. ولكنه يتصور دائمًا أنه سوف يتم القبض عليه عن طريق الخطأ ويودع فى السجن ولِمَ لا.. أليس فى الحبس مظاليم؟!. إنه يشعر أن طغيان العالم كله قد تجمع وراءه يطارده.. ويتربص به.. ويفرض وجوده الفاشى ضده.. يشاركه فى العنبر خمسة مرضى يائسين يعانون أمراضًا نفسية وعقلية مختلفة تولدت كنتيجة حتمية لمشاكلهم الاجتماعية المتعددة، منها الاكتئاب والهستيريا.. والبارانويا والذهان.. يركز «تشيكوف» فى روايته على تلك العلاقة المدهشة التى تربط الطبيب «أندريه» والشاب المريض «إيفان»، حيث تدور مناقشات وحوارات ومواجهات ذات طابع فلسفى بينهما.. يحاول من خلالها «أندريه» بكل جهده وبراعته فى الإقناع أن يحفف عن «إيفان» آلامه النفسية، التى هى انعكاس لوضعه الاجتماعى البائس وفقره.. ويتمه وتعطله عن العمل، الذى أدى به إلى الانهيار، فأودع المستشفى.. يلجأ الطبيب إلى الإيحاء له أن الألم النفسى «ليس سوى تصور حى عن الألم».. بناء عليه، فإن الإنسان عليه أن يبذل كل جهده.. ويشحذ إرادته الفعالة.. لكى يغير هذا التصور لكى ينعم بالهدوء والاستقرار النفسى والقدرة على مجابهة مشاكل ومنغصات الحياة والواقع الاجتماعى.. ويؤكد له أنه إذا ما كف عن الشكوى فسوف يختفى الألم.. فالإنسان السوى يتميز بأنه يحتقر المعاناة ويزدريها ويتجاوزها.. وعليه أيضًا أن يخاصم الدهشة، ويطرد الإحساس باليأس والقنوط.. ولا يستسلم للشعور بالغبن والظلم.. وفرض الآخرين للوصاية عليه.. أو السيطرة على مقدراته أو إجهاض أحلامه فى حياة أفضل.. وعليه أن يتكيف مع منغصات الواقع.. فالتكيف هو علامة الصحة النفسية، وما أتفه تلك الأشياء الخارجية التى تقلقنا.. لكن المريض الشاب «إيفان» يسخر منه ويؤكد له أن الله خلق الإنسان من لحم ودم وأعصاب.. ومعنى الحياة يتركز فى استجابة لكل المؤثرات.. إن احتقار الآلام يعنى احتقار الحياة نفسها لأن جوهر الإنسان كله يقوم على أحاسيس الجوع والبرد والإهانات والخسائر والخوف من الموت، والحياة كلها مركزة فى تلك الأحاسيس.. ويجوز للإنسان أن يشقى بالحياة ويمقتها.. لكنه لا يحتقرها.
إن السيد المسيح نفسه رغم تساميه الروحى وتأكيده أن مملكته ليست من هذا العالم، كان يستجيب للواقع وأحداثه المعاشة.. فيبكى ويتألم ويحزن ويضحك ويغضب، ولم يواجه الآلام وهو يُصلب بابتسامة، ولم يحتقر الموت.. بل صلى ليخفف عنه الرب الآلام.. ويواجهه مرددًا: إنك تحتقر الآلام، لكن لو أن إصبعك انحشرت فى الباب لصرخت بأعلى صوتك!.
المفارقة فى الرواية أن المؤامرات تُحاك ضد الطبيب العجوز من قِبَل الطبيب الشاب وبعض العاملين بالمستشفى حتى ينجحوا فى إلصاق تهمة الجنون به، ويودعوه نفس العنبر فى المستشفى.. فيعانى بشاعة الحياة اليومية داخل العنبر.. نفس معاناة المريض «إيفان»، التى كان يسخر منها ويهون من شأنها.. ويصارحه فى نهاية الرواية: «نحن ضعفاء يا عزيزى.. كنت أناقشك ببرود ومنطق.. لكن ما إن مسّتْنِى الحياة بخشونة حتى انهارت وخارت قواىَ وتعبت ومرضت..».
■ ■ ■
رغم قتامة الرواية وكآبة أحداثها، فإن «تشيكوف» ينتصر فى النهاية للحياة من خلال معايشة الألم لا التعالى عليه.
نقلا عن المصرى اليوم