الأنبا موسى
من كلمات المرنم داوود النبى فى مزمور الراعى: «إِذَا سِرْتُ فِى وَادِى ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِى. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِى» (مزمور 4:23)، وفيه يتحدث عن أهم صفة فى الراعى:
الراعى مدافع عن القطيع:
وهذا المزمور من أجمل تأملات داوود النبى عن رعاية الله لنا، ليس المحور هنا هو الراعى كمعط للطعام أو كقائد للقطيع بل كمدافع عنه. وهذا المحور يكشف لنا عن المخاطر التى تهدد الخراف، وإعلان عن ثقة تملأ القلب: فينتفى الخوف، وتثبت ويتبلور فعل الإيمان والثقة، ولذلك يستخدم المرنم إحدى الصور المألوفة فى المرعى.
أولًا: «إِذَا سِرْتُ فِى وَادِى ظِلِّ الْمَوْتِ..»
يشرح المرنم هنا الخطر المحدق بالخراف، مستخدمًا إحدى صور الحياة الشائعة فى فلسطين، فقد يدخل القطيع أو المسافر إلى «الوادى»، وهذه كلمة عبرية تعنى منطقة منخفضة بين جبلين يدخلها نور النهار بصعوبة. وهنا قد نصادف ثعلبًا أو ذئبًا، لصًا يترصد الخراف والمسافرين ويهاجمهم إذا ما اقتربوا.
الخطر عظيم!.
- بل إن الكلمة العبرية المستعملة «وَادِى ظِلِّ الْمَوْتِ» تعنى مضيقًا أضيق وأظلم من الوادى، وتحمل معنى الظلال القاتمة جدًا، وهنا تتعرض الخراف لأخطار جمة: الأعداء والأمراض والموت، عدا التجارب وأمراض الروح والموت الأبدى. وما هو وادى ظل الموت إلا هذه الحياة بحروبها وضيقاتها.
هل نخاف؟! هل ننكمش فى قلق وفزع أمام هذه المخاطر؟!
كلا، فهناك نصان آيتان يشجعاننا ضد الخوف:
- قال عاموس النبى: «يُحَوِّلُ ظِلَّ الْمَوْتِ صُبْحًا» (عاموس 8:5).
- ويقول إشعياء النبى: «اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِى الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، والْجَالِسُونَ فِى أَرْضِ ظَِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ» (إشعياء 2:9).
وهنا قد تتعرض الخراف اليوم وكل يوم - أكثر من أى وقت مضى - لظلال الخوف والصراع واليأس ونقص الإيمان.. ولكن سواء فى حالة: هذا الذى يبكى وحيده فى حجرته، أو ذاك الذى يهدده السرطان وسوف يرقد بعد قليل على منضدة العمليات - فالراعى عن قرب يتقدم قطيعه، بل يتقدم كل غنمه على حدة، ويحارب عنها. وحتى لو سمح لإحدى غنماته أن يسقط عليها ظل الموت إلى لحظة، فهو لا يقصد إلا أن تدخل هذه الغنمة إلى مناطق جديدة من النور، نور النهار الكامل.
ثانيًا: «لاَ أَخَافُ شَرًّا»:
بعد أن تصورنا الخطر المحدق بالخراف، يأتى التأكيد الهادئ، أن الغنمة المؤمنة فى بداية المزمور قائلة: «لاَ يُعْوِزُنِى شَىْءٌ»، ولكنها الآن لا تتحرر من الاحتياجات فحسب، بل من الخوف أيضًا. وسر التحرر من الخوف هو:
ثالثًا: «لأَنَّكَ أَنْتَ مَعى»:
إذن، فمهما حدث لنا، لن تهتز ثقتنا فى الراعى، لأنه معنا أو بالحرى مع كل واحد فينا.
«مَعِى.. » هناك طريقتان أصير بهما مع الإنسان: إما أن أبقى قريبًا منه مواجهًا له، ومع ذلك نبقى منفصلين وغريبين، وإما أن يرتبط بى وأتجانس معه فندخل فى مبادلة حية للأفكار وأخذ المشورة منه.
لم يعد الأمر إذن مجرد التقارب الجسدى بل المشاركة الكيانية. واللغة تميز بوضوح وتستخدم تعبيرات لتؤكد المشاركة الكيانية: «لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِى»؛ أى «لأنك دخلت إلى صُلب حياتى». وهنا يتحدث المرنم فى صيغة المخاطب، يتحدث إليه وليس عنه «لأنك أنت معى».
قال البعض فى القديم: إن الدين مسألة «ضمائر، وربما سمعتم عن نظرية أحد الفلاسفة (أنا وأنت) الذى قال عن الناس بصيغة (هو وهى وهم)، فكأنه يفكر فيهم وكأنهم ليسوا من القطيع، أما إذا حدثناهم بصيغة: (أنت) ندخل معهم فى علاقة محبة حية وشخصية».
رابعًا: عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِى:
استخدم المرنم تشبيهًا مستعارًا من حياة الراعى ليشرح لنا هذا السر. «العصا والعكاز» ليسا مترادفين، ولكن لكل واحدة استخدام، كل فى وقتها.
أ- «عَصَاكَ..» فى العبرية هى عبارة عن عصا خشبية قصيرة تنتهى بقطعة معدنية ثقيلة، تستخدم كسلاح دفاعى وحماية القطيع من الذئاب المفترسة.
ب- «عُكَّازُكَ.. » وتحمل معنى المعونة والسند. فالراعى يستند على عكازه كثيرًا ليستريح، ويستخدمه فى قيادة ومعونة الخراف، بسبب نهايته المقوسة «كالخطاف»، إذ يستخدم لمساتها الخفيفة فى توجيه الخراف يمنة أو يسرة، وإذا لزم الأمر يمسك به غنمه من رقبتها أو رجلها، وبالأكثر حينما تعبر الخراف جدولًا ما، حيث به يضرب الخروف الجامح الذى يحاول الهروب، وهذا يشير لتأديب الأبوة الحانية الحازمة، ويبدو أن عكاز الراعى هو أصل صولجان الملوك، ذاك لأن أول ظهور للصولجان كان فى عهد «الهكسوس» فى مصر، وهؤلاء كانوا رعاة أغنام. الراعى إذًا هو ملكنا، ولم يقبل أى صولجان أكثر من هذا العكاز، الذى يحمل معنى الرعاية والأبوة.
ج- «يُعَزِّيانِنِى.. » أى أن العصاة والعكاز ليسا لتخويفنا، بل هما للدفاع والمعونة، وهكذا يوحيان إلينا بالثقة واليقين.. أيها الراعى الحبيب الرب.. ماذا يمكن أن نفعل بدونك؟!.. ليس أفضل من أن نسير وراءك يارب ونعيش فى مخافتك وفى وصاياك.. لك كل المجد والأبد، آمين.
نقلا عن المصري اليوم