فاطمة ناعوت
كنتُ فى المملكة العربية السعودية عام ١٩٩٩. وفى أحد المولات كنت أقفُ مع صديقتى السورية نتحدث. بعد كلمات قليلة نطقتُها، توقف رجلٌ من الشرق الأقصى، كان يسير مع أسرته، ثم جاء نحوى مسرعًا ودون مقدمات قال لى بعربية متعثّرة: «أنت مصرى؟» فقلتُ له: «نعم أنا مصرية»، فابتسم بسعادة وقال: «تعرفى عادل إمام؟، سلمى عليه!»، فابتسمتُ، ووعدته بأن أفعل لو التقيتُ به.
ولم ألتقِ به لأفى بوعدى إلا بعد تلك الواقعة بثمانى سنوات. كنتُ فى طريقى إلى «مهرجان جرش» بالأردن لتقديم أمسية شعرية، على متن الطائرة التى تُقلُّ الفنان «عادل إمام»، والفنانة «شيرين سيف النصر»، وفرقته لتقديم مسرحية «بودى جارد» فى المهرجان. ولم أنسَ أن أنقل له تحية الرجل الآسيوى، فابتسم ابتسامته الشهيرة وقال: «مبيجيش ليه؟. مش يبقى ييجى؟!».
حين لا تعرفُ بلدًا ما: فلم تزره ولم تقرأ عنه، فإن هذا البلد بكامله يدخلك، أو تدخله، عبر بوابة «الفن»، فحين تسمعُ كلمة «هولندا»، ولم تزرها أبدًا، سوف تفكّر تلقائيًّا فى «ڤان جوخ»، وترتسم على صفحة عقلك طواحيُن الهواء وحقول القمح. وحين تسمعُ كلمة «النمسا» فورًا سوف يعزف أوركسترا عقلك افتتاحيةَ السيمفونية الأربعين للعبقرى «موتسارت»، والتى استلهمها «الرحابنةُ» لتشدو على نغمها «فيروز» أغنيتها الجميلة: «يا أنا يا أنا أنا وياك/ صِرنا القصص الغريبة/ واتسرقت مكاتيبى/ وعرفوا إنك حبيبى».
وإذا سمعتَ اسمَ «مصرَ»، ولم يسعدك حظُّك لتزورها، ولم تكن قد قرأت عن تاريخها العريق وصناعتها أولى وأهم وأرقى حضارات الأرض، فسوف ترتسمُ على شاشة عقلك صورة «أم كلثوم» تقفُ بشموخها ملكةً مُتوّجة تشدو: «ظالمُ الحُسن شهىُّ الكبرياء» كما كتبها العبقرى: «إبراهيم ناجى»، ومَوْسقها العبقرىُّ: «رياض السنباطى».
أو يجلجلُ فى خاطرك صوتُ «يوسف وهبى» يقول: «ما الدنيا إلا مسرحٌ كبير»، أو «فؤاد المهندس» يغنّى: «أنا واد خطير» من كلمات «حسين السيد»، ولحن الأسطورة «محمد عبدالوهاب»، الذى يدهشنا فى موسقة الأغانى الكوميدية الخفيفة، تمامًا كإدهاشه لنا فى تلحين أعقد القصائد وأعلاها كعبًا!، ودون شك سوف يصافحُك وجهُ «عادل إمام» وهو يقول: «بلد بتاعة شهادات صحيح!»، أو «أنا أضيف؟!!! دنا غلباااان!»، وعشرات الجمل الشهيرة الأخرى التى غرسها «عادل إمام» خلال ستين عامًا من الأفلام والمسرح والدراما التى كسرت حاجز المائة وسبعين عملًا.
«عادل إمام» ظاهرةٌ فنية مصرية لها أثرها البالغ وبصمتُها القوية فى تاريخ الدراما المصرية. خلال أفلامه طرح وناقش همومَ المجتمع، ورفع إصبعَ الاتهام فى وجه أخطر أدران المجتمع. العشوائيات وأزمة الإسكان: «كراكون فى الشارع»، فصامية التطرف: «الإرهابى»، السلام المجتمعى: «حسن ومرقص»، الرفض الشعبى للتطبيع مع إسرائيل: «السفارة فى العمارة»، الانشطار المجتمعى: «عمارة يعقوبيان»، الفساد والاتجار بالدين: «طيور الظلام».
الوطنية: «اللعب مع الكبار»، الاسترقاق: «المنسى»، استغلال الجهل والعَوز: «رجب فوق صفيح ساخن» و«عنتر شايل سيفه»، البيروقراطية: «الإرهاب والكباب»، فساد الأخلاق وإفساد القيم المهنية: «الأفوكاتو»، وغيرها العديد والعديد من المشاكل المجتمعية، التى تُعثر المجتمعات وتعوّق نهوضها وتُسلط الأعمالُ الضوء عليها حتى يختصمها وجدانُ المُشاهد ويعالجها المجتمع، فى مقابل القيم العليا التى تتسرّب إلينا خلال أبطال تلك الأعمال، وتستقر فى وجدان المشاهد.
وهنا لابد من تقديم التحية للعبقرى «وحيد حامد». نجح «عادل إمام» فى استصراخ «المسكوت عنه» من أدران الواقع المصرى، وتسليط الضوء على هموم المواطن البسيط وأحلامه وصراعه من أجل التحقق.
وتلك واحدة من أهم رسائل الفن وأخطرها. لكن عبقرية «عادل إمام» تتجلى فى أنه يقدّم الكارثة فى إطار لا يخلو من كوميديا، فيجعلك تبتسم وأنت تتجرّع كأس المرارة، حين تتأمل أحداث العمل وتبحثُ عن نفسك بين أبطاله، ولا شك أنك واجدٌ نفسك هنا أو هناك، فى عمل ما من أعمال «عادل إمام».
لا شك أن القوى الناعمة هى السفيرُ الأغزرُ سَفرًا والأسرعُ وصولًا لجميع بلدان العالم، والأعمقُ أثرًا وتأثيرًا فى نفوس الشعوب، والأبرعُ تمثيلًا لبلاده فى عيون الغرباء. القوى الناعمة، المتمثلة فى الفنون الستة: «المسرح، الموسيقى، الشعر، العمارة، النحت، التشكيل»، ثم السينما، بوصفها الفن السابع، هى الصورة الأولى التى ترتسم فى رأسك عن بلد لم تزره.
لأن البلدَ الذى لم تزره يبادرُ هو بزيارتك فى بيتك عن طريق الفنون السبعة، والسينما هى الأسرع وصولًا إليك. فى عيد ميلاده الثالث والثمانين، الذى احتفل به المصريون بالأمس ١٦ مايو، أقول للزعيم: «شكرًا على الخيوط المحورية التى نسجتها على قماشة الفن المصرى الغنية بعظماء فنانيها. كل عام وأنت جميل كما أنت».
نقلا عن المصرى اليوم