طارق الشناوي
دائما هناك استنفار أمنى فى (كان)، ألاحظ أن معدله أكبر من المهرجانات المماثلة، دائما هناك تخوف ما، وتوجس تلمحه فى عيون رجال الشرطة، الأمن اشتبه فى وجود قنبلة داخل حقيبة بالقرب من القاعات الرئيسية، وقريب جدا من تجمعات الصحفيين والجمهور، أمام قاعتى العرض الرئيسيتين (دى بى سى) و(لوميير) على بعد متر واحد من الأولى، واتضح أنها مجرد حقيبة نسيها صاحبها إلا أنها قطعا أحدثت هلعا، قبل أن يتم التأكد من هوية الحقيبة.
هناك محاولات مرفوضة أمنيا للسماح بطائرات الدرون بالتقاط صور، يرفض الأمن استخدامها فى الإعلان عن المهرجان لأسباب لها علاقة قطعا بالحسابات الدقيقة خوفا من إساءة الاستخدام، وهناك دعوى مستعجلة أمام القضاء، للسماح بها من قبل عدد من الفضائيات، المظاهرات ممنوعة أمام القصر، ولكن سمح بواحدة بعيدة عنه تتعلق بالاحتجاج على المعاش التعاقدى، هناك تهديدات بقطع الكهرباء عن المهرجان بسبب احتجاج فئوى، ولكن الأمين العام للمهرجان تيرى فريمو، وهو المسؤول الأول إداريا وفنيا عن التفاصيل، وضع سيناريو بديلا لمحولات لتوليد الكهرباء تكفى لتشغيل، كل الفعاليات.
المهرجانات، لأنها على الهواء وترصدها كل العيون، مهددة قطعا فى كل وقت، وينبغى أن تظل هناك بدائل فى كل لحظة. برغم بريق ووهج هذه الدورة المليئة بالنجوم، فإن امرأة من إحدى الجمعيات النسائية الرافضة لتأجير الأرحام، سرقت الكاميرا عندما اقتحمت القاعة الرئيسية ببطن مصنوع (باعتبارها حاملا)، وكتبت عليه رفضها لهذا الاستغلال الذى يخاصم الإنسانية، تدخل الأمن فى اللحظات الحاسمة، مثلما حدث أيضا فى العام الماضى أن اقتحمت امرأة عارية قاعة (لوميير) وعلى جسدها كتبت شعارا يندد بالغزو الروسى لأوكرانيا.
الصورة فى المهرجان تكتمل من خلال الداخل والخارج، الشاشات تعرض أهم أفلام العالم لتظهر حرص المهرجان عمليا على أن يتقدم خطوات أبعد من منافسيه فى (برلين) أو (فينسيا)، وهو فى هذه الدورة بالفعل حقق هذا الهدف. كل شىء يحسب بدقة، وفى النهاية ينتصر الفن، وهذه الدورة تحديدا شهدت انتصارا عربيا، المغرب لها فيلمان داخل مسابقة (نظرة ما) التى يعتبرها البعض فى توصيف سريع ومتعسف، تشغل المكانة الثانية بعد (المسابقة الرسمية)، ومن خلال متابعتى لأفلام هذا القسم الذى يفتتح عروضه ثانى أيام المهرجان وتعلن جوائزه قبل جوائز المهرجان الرئيسية بأربع وعشرين ساعة، لتحظى بمكانة إعلامية خاصة تليق بهذا القسم الذى يعلى من شأن التجارب الخاصة فى السينما، وبين الحين والآخر كانت أفلام يوسف شاهين تجد مساحة فى هذا القسم وآخرها (القاهرة نيويورك) الذى كان هو فيلم ختام هذا القسم 2004. هذه المرة المملكة المغربية لها فيلمان، وهى من المرات القليلة التى يعرض فيها فيلمان من نفس الدولة (كذب أبيض) لأسماء المدير، و(كلاب الصيد) أول إخراج لكمال رزق. للمغرب أيضا فيلمان آخران؛ الأول للمخرج الشهير فوزى بن سعيدى يشارك فى (نصف شهر المخرجين) وعنوانه (الثلث الخالى)، والثانى فى مسابقة (مدارس السينما) فيلم (القمر) إخراج زينب واكريم، وهى نفس المسابقة التى يشارك فيها المصرى جاد شاهين بفيلم (الترعة)، ولنا فيلم آخر فى مسابقة الأفلام القصيرة (لأسبوع النقاد) هو فيلم (عيسى) للمخرج مراد مصطفى. والمشاركة المصرية كما ترى شبابية وتعبر عن إرادة جيل رفض الاستسلام لحالة التراجع والانسحاب الثقافى التى نعيشها وخاصة فى السينما، والدليل هو حالنا فى (كان) مقارنة بالدول العربية مثل تونس والأردن والسودان والمغرب، التى حققت قفزة، حيث إن الدولة المغربية مثلا ممثلة فى المركز الوطنى السينمائى هناك لا تزال تدعم الأفلام ماديا، لا أقصد قطعا كل الأفلام ولكن ما تراه جادا منها وهو فى العادة ما يشارك فى المهرجانات الكبرى حاملا اسم المغرب، كما أن هامشا من السماح الرقابى لا يزال متوافرا، يسمح بتقديم الجريمة والفقر، ولا يعنى هذا النيل من سمعة البلد لأن عشرات من الأفلام الأوروبية والأمريكية تقدم ما هو أكثر، ولا يتجاوز الأمر مجرد شريط سينمائى، لا أنكر أن فى عالمنا العربى دولا- ومنها المغرب أيضا- تواجه هذه الأفلام بقدر من الحساسية الزائدة والرفض القاسى، وتتردد نفس الاتهامات؛ بيع البلد وسمعته من أجل العرض فى المهرجان أو للحصول على تمويل، لكن فى النهاية لا يتوقف السينمائى عن الاستمرار، ولا تتخذ الدولة أى موقف عنيف، بل يستمر الدعم.
أحداث فيلم (كلاب صيد) تجرى فى كازابلانكا (الدار البيضاء)، ليلة واحدة، أب وابنه يعملان لحساب العصابات الكبيرة ودورهما لا يصل لجريمة القتل ولكن التهديد. المطلوب هو خطف إحدى الشخصيات، ولأنهما ليسا مدربين بما فيه الكفاية ولا يزالان فى سنة أولى إجرام، وبسبب إصرار المخطوف على المقاومة ينهال عليه الكثير من الضربات لإسكاته، ويقاوم، إلا أن واحدة من تلك الضربات تقتله.
وبالطبع يتحول الأمر إلى كابوس، كيف يتخلصان من الجثة؟، ناهيك عن ضياع الصفقة بين الأب والابن، المشهد الأخير بعد أن يسلما الجثة لأحد الأفران، ونرى كلبا ضالا يلتقط يدا متفحمة ويجرى بها بعيدا ليلتهمها كصيد ثمين. الفيلم يقع فى إطار (سينما الطريق)، حيث تلتقى بشخصيات متعددة من رجال شرطة متواطئين أو متكاسلين، ومواطنين كل منهم مشغول بالبحث عن قوت يومه، أو بتأمين سرقة أخرى. الشخصان اللذان يلعبان الأدوار الرئيسية ويؤديان دورى الأب وابنه ليسا محترفين فى التمثيل؛ أيوب العبد وعبد اللطيف مستورى، وهذا ما يمنح الشريط مصداقية أكبر، وهو ما يلقى على المخرج أيضا مسؤولية مضاعفة. المخرج وهو أيضا كاتب السيناريو فى أول تجربة روائية طويلة له يقدم العديد من أطياف المجتمع بكل تعقيداته وتبايناته، الجريمة والعقاب ليست هى العنوان، والتشويق برغم إتقان المخرج فى ضبطه ليس هو سر التميز، والتفاصيل المتعلقة بالإضاءة بمفتاح دقيق جدا من العصر حتى فجر اليوم التالى ودرجة مصداقية تصل إلى العمق تجيب لك عن سؤال وهو ضرورة وحتمية الاستعانة بوجهين جديدين حتى ترى الحياة على الشاشة قبل أن تشاهد شريطا سينمائيا.
لا تحدثنى عن إمكانيات مادية ضخمة، ولا عن ضغوط أو إلحاح أو حتى معادلات إنتاجية خارج النص، دفعت هذا الفيلم وغيره لكى يحجز له مكانا فى (كان)، ولكن علينا أن نتوقف كثيرا أمام سقف حرية اتسع، ومرونة مسؤول استوعب، لنجد الفيلم يسرق الكاميرا فى (كان). (كلاب الصيد) تحولت إلى بشر فى هذا الفيلم.. المفروض أن اثنين يصطادان الضحية ويحصلان على الثمن، فدفعا هما الثمن وصارا هما الضحية!!.
نقلا عن المصري اليوم