الأنبا موسى
فى مزمور «الراعى» لداوود النبى، يذكر أن الراعى هو راعٍ أمين على حياة رعيته لم يتركهم فى عوز، فهو الراعى الصالح، ففى هذا المزمور أعلن عن المراعى الخضراء التى سأتغذى عليها، وعن مياه الراحة التى يجب أن أمكث بجوارها- أى بجواره هو- لتطفئ ظمئى.
ويوضح داوود النبى ما يفعله الراعى من أجلنا لتستمر حياتنا الجسدية والروحية، إذ يهبنا كل المقومات الأساسية لوجودنا، لا يقتصر دور الراعى هنا على مجرد استمرار الأمور كما هى، بل نراه يصحح أخطاء الماضى، ويُحيى ما كان قد تحطم وذبل بسبب الظروف والأحداث المؤلمة. وهذه نافذة جديدة من خلالها يندفع الهواء نقيًّا وجديدًا لينعش أرواحنا ويجددها ويحييها. هنا نكتشف الراعى كمخلص ومفدٍ، يبعث الشفاء حيث المرض والحياة حيث الموت.
أولًا: «يَرُدُّ نَفْسِى».. معنى النفس فى الأصل العبرى أشمل وأعمق من الكلمة الإنجليزية Soul، فهى تربط معًا فكرة الروح والنفس وجوهر الحياة والشخصية والدم. وهكذا يصير تعبير «يَرُدُّ نَفْسِى» ذا معنى أشمل.
- ولكن ما الذى يفعله الراعى بالنسبة لحياتى؟. «يرد نفسى».
- وما معنى ذلك؟. البيت يرد (أو يرمم) حين نعيده إلى حالته الجيدة ثانيًا، والملك يرد حينما يثبت من جديد على عرشه، والجسم يرد حينما ينشط بالطعام والراحة.
إذن «يرد» معناها «يكمل» حينما تكون قد حدثت خسارة وأضرار، إذ يرفع عنا كل آثار الفقدان ويجعل النفس فى سلام.
كيف ينطبق هذا الكلام على حياتنا؟.
الراعى يرد نفوسنا ليس بمجرد تقويتنا بالطعام والشراب، ولا بمجرد شفاء أجسادنا حين تمرض، بل بأنه «يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لو 10:19). مثل الخروف الضال.. أو الخروف الهالك- الذى نقرأ عنه وصفًا مؤثرًا فى الإنجيل- كيف أن الراعى ترك القطيع عرضة للخطر والهلاك، ثم يذهب ليبحث عن الخروف الضال فيجده. وهذا هو الخلاص والنجاة من الموت المحقق.
فحين تطغى الخطية علىَّ حتى أكاد أسقط فى اليأس، وحين أفقد كل ما كنت أملك من نعمة، تظهر قوة الراعى الفادية وتنشلنى من الخطية والشر. وأقول عن قوته إنها «فادية» لأن الراعى بالفعل يشترينى من جديد، ويعطينى الخلاص، إذ يهبنى نفسه دون تحفظ.
ثانيًا: «يَهْدِينِى إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ».. وهنا ينكشف أمران:
- أولًا: أصل وجوهر كافة أمراضنا الروحية، فالمرض والموت يصيبان الغنيمة التى رفضت التسليم لقيادة الراعى السليمة.
- ثانيًا: معنى رد النفس، أى قبولنا للراعى كقائد، وتبعيتنا له حيثما يذهب.
يَهْدِينِى.. فالراعى يسير أمام القطيع، لا بجواره ولا خلفه، فهو قائد الخراف ومرشدها. وهنا نلاحظ اختلافًا بين عوائد الشرق وعوائد الغرب.
ففى الغرب: يسير الراعى وراء الخراف ليتأكد أن أحدًا لم يتخلف أو يُفقد، وليشجعها على المسير بإحداث أصوات خاصة، وهكذا تندفع أمامه فى الطريق السهلة والمحددة.
أما فى الشرق: حيث لا تجد سبلًا محددة، لذلك يتقدم الراعى خرافه ليكشف لها الطريق، وليدفع عنها هجمات الحيوانات المفترسة. وهكذا يمارس الراعى عملًا مزدوجًا: فتح الطريق، وتحمل المسؤولية. وهذان هما نفس ما يمارسه الراعى معنا، إذ يرشدنا إلى الطريق الصحيح ويقودنا.
وعلى الرعية أن يتبعوا خطوات الراعى. وكلمة «يتبع»، نتبع أى نسير خلفه وقريبًا منه، فى نفس الاتجاه دون أن ننحرف يمينًا أو يسارًا. لا نمرق من الطريق، ولا نسرع إلى الإمام، بل نرتب خطواتنا على خطوات الراعى فلا نسبقه ولا نتأخر عنه، نحتفظ برفقته، وكلما انفصلنا عنه نرجع سريعًا لنلتصق به، ولكننا لا نقدر أن نتبع شخصًا ما لم نرتبط به، فكما يقول الكتاب المقدس: الراعى يعرف خاصته، وخاصته تعرفه.
ولكن.. إلى أين يقودنا الراعى؟.
ثالثًا: «إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ».. وتعنى «الطرق المستقيمة»، وهى إما «أقصر الطرق» الملائمة والمناسبة للوصول إلى هدف الراعى، فنطرقها فى أمان وطمأنينة دون أن نخشى الانحراف، وإما «الطرق البارة».. طرق العدل والخير، والأمران ينطبقان تمامًا على إرشادات الراعى لنا فى كل نواحى حياتنا اليومية.
«لأجل اسمه..» ربما تبدو هذه العبارة صعبة الفهم، فالراعى- بالتأكيد- لا يطلب مجد نفسه أثناء قيادته للخراف، ولكنه يريد أن يقدم كل ما يمكن أن يحمل اسم «الراعى» من معانٍ، يريد أن يكون الراعى الصالح والحقيقى، يريد أن يظهر نفسه أمينًا كأنه وقّع بإمضائه على «عقد» يربطه بالخراف، لذلك لا يقدر ولا يرغب فى الإساءة إلى اسمه هذا وتوقيعه غير المنظور. الراعى مرتبط بعهده إلى الأبد، فلقد أخذ منا موقف المبادرة. كم من مرة أسأنا إلى هذه العلاقة التى لم نتعب فى تأسيسها!.
ياليت صدى هذه الأنشودة يتردد فى نفوسنا على الدوام، ليتنا نجد النور والفرح والقوة حين نردد بعض كلماته: «الرَّبُّ رَاعِىَّ، فَلاَ يُعْوِزُنِى شَىْءٌ، إِذَا سِرْتُ فِى وَادِى ظِلِّ الْمَوْتِ لا أَخَافُ شَرًّا لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِى»، «يَرُدُّ نَفْسِى. يَهْدِينِى إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ».
نقلا عن المصري اليوم