القمص يوحنا نصيف
في إحدى المناسبات التي تمّ فيها دعوة الربّ يسوع للعشاء، لاحظ كيف اختار المدعوّون المتّكآت الأولى (لو14: 7-11). فقدّم للجميع تعليمًا راقيًا جدًّا عن أهمّيّة الاتضاع وتقديم الآخَرين وعدم التزاحُم على الكرامة العالميّة..
والقدّيس كيرلّس الكبير يعلّق على هذا الموقف تعليقًا جميلاً وغنيًّا، فيقول:
+ لا يكُفّ المُخلِّص عن إجراء عمل أو آخَر، إلاّ ويكون مُفعمًا بالفوائد.. فهو يُمسِك بكلّ فرصة، مهما كانت بسيطة، ويرسم لنا بكلماته نصائح جديرة جدًّا بانتباهنا.. ويزرع فينا كلّ ثمر الفضيلة، لأنّنا كما يقول الكتاب "فلاحة الله" (1كو3: 9).
+ إنّه لاحظ بعضًا من المدعوِّين يتمسّكون بغباءٍ بالمتّكآت الأعلى، كشيء مهمّ ويستحقّ السعي إليه، لأنّهم كانوا توّاقين إلى المجد الباطل.. إنّ الجري وراء الكرامات غير مناسب ولا يليق بنا، بل يُظهِر أنّنا أغبياء.. وكلّ مَن يتصرّف هكذا هو مكروهٌ، وكثيرًا ما يكون أيضًا موضع سخرية عندما يُعِيد للآخَرين، رغم إرادته، الكرامة التي لم تكُن له.. أيّ خِزي عظيم يكون عندما يتمّ هذا العمل! إنّه مثل السرقة، وإعادة الأشياء المسروقة..!
+ الرجل المتواضع والجدير بالثناء.. لا يبحث عن هذا المتّكأ (الأوّل)، بل يُقدِّم للآخَرين ما يحِقّ لهم، وهو يبدو غير مغلوب من المجد الباطل، مثل هذا سيحصل على الكرامة كما يحقّ له، لأنّه سوف يسمع الذي دعاه يقول: ارتفِع إلى فوق.
+ الفِكر المتواضع هو خير عظيم يفوق الوصف، لأنّه يُخَلِّص أصحابه من اللوم والاحتقار، ومن تهمة المجد الباطل. أمّا مُحبّ المجد الباطل فيقول: نعم، أنا أحبّ أن أكون مشهورًا ومعروفًا، وليس مُحتَقَرًا ومهمَلاً.. فإن كنتَ ترغَب في المجد البشري الزائل، فأنت تضلّ عن الطريق المستقيم، والذي به يمكن أن تصير لامعًا حقًّا.
+ يلوم داود النبيّ هؤلاء الذين يحبّون الكرامات الزمنيّة، وعنهم يتكلّم هكذا: "وليكونوا كعشب السطوح الذي ييبس قبل أن يُقطَع" (مز128: 6 سبعينيّة). فكما أنّ العشب الذي ينبت على السطوح ليس له جذر عميق ثابت، ولذا يجف بسهولة، فهكذا أيضًا من يجِلّ الكرامة العالميّة، فبعد أن يكون بارزًا لوقتٍ قصير، كزهرةٍ، ينحطّ أخيرًا إلى العدم.
+ لذلك فإن رغب أحدٌ بينكم أن يجلس أعلى من الآخَرين، فدعه يربح ذلك بمرسوم سماوي، وأن يُكلَّل بتلك الكرامات التي يمنحها الله. دعه يتفوّق على كثيرين بأن تكون له شهادة الفضائل المجيدة. أمّا أساس الفضيلة فهو الفِكر المنخفِض الذي لا يحبّ التفاخُر. نعم، إنّه التواضُع.. لأنّ الفكر المعتدل والمنضبط يُمجَّد من الله، لأنّه يقول: "القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله" (مز50: 17 سبعينيّة).
+ ولكن كلّ من يظُنّ أمورًا عظيمة عن نفسه، وهو متشامخ ومُعجَب بنفسه، ويرفع نفسه بغطرسة فارغة، فهو مرفوض ومكروه، وهو يتبع منهجًا مُضادًّا لمنهج المسيح الذي قال: "تعلّموا مِنّي لأنّي وديع ومتواضع القلب" (مت11: 29)، لأنّه مكتوبٌ: "يُقاوِم الله المستكبرين، وأمّا المتواضعون فيعطيهم نعمة" (1بط5:5). كما أنّ الحكيم أيضًا يبيّن في أماكن كثيرة أمان الفِكر المتّضع، ففي كلّ مرّة يقول: "لا ترتفع لئلاّ تسقُط"، وفي مرّة أخرى يُوضِّح في تصوير مجازي نفس الشيء ويقول: "المُعَلِّي بابَهُ يطلب الكسر" (أم17: 19).
+ إنّنا وُلِدنا عُراة، ولذلك فالغِنى والثروة والكرامة العالميّة إنّما تأتينا من خارجنا، وهي ليست ملكًا لنا في الواقع، لأنّ هذه الأشياء ليست من خصائص طبيعتنا. لذلك فلأيّ سبب ينتفخ فكر الإنسان؟ ماذا هناك عنده حتّى يرفعه إلى التشامُخ والتباهي؟ فإذا نظر أيّ واحد مِنّا إلى حالته بذهن متفهّم، فإنّه سيصير مثل أبرآم الذي دعا نفسه "تراب ورماد" (تك18: 27).. هذا العدم نفسه يصير عظيمًا ورائعًا ومُكرَّمًا أمام الله، إذا ما عرف نفسه. لأنّه يتكلّل من الله بكرامةٍ ومدحٍ، لأنّ مُخَلِّص وربّ الكلّ يعطي نعمة للمتواضعين.
[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 102) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف