عادل نعمان
ليست حروب الردة تأصيلًا شرعيًّا لقتل المرتد، فليس من حق أبى بكر أن يشرع عن الله، إلا أن قرار هذه الحرب كان تقديره الشخصى كولى للأمر، وبالمناسبة لم يوافقه عمر ولفيف من الصحابة على ذلك، والحقيقة أن الكثير من القبائل حين علمت بوفاة النبى منعت دفع الزكاة لأبى بكر، بحجة أن الزكاة كانت تُدفع للنبى لأن «صلاته سكن لهم» وفقًا للآية (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم) وهذه القبائل أيضًا رفضت بيعة أبى بكر.
ولم تكن هذه الردة «ردة إيمان» لكنها «ردة بيعة» وكان قرار الحرب سياسيًّا وليس دينيًّا، الغريب أن مانعى الزكاة هم الذين بدأوا الحرب وليس أبو بكر، حتى لو كان قد أسرّها فى نفسه «هم الذين بدأوها وهو الذى تلاها» لما خرج جيش أسامة إلى الشام انتهزها المتمردون فرصة للإغارة على المدينة، وتصدى لهم من بقى من أهلها وردوهم على أعقابهم، وبدأت الحرب بين الطرفين واستمرت، وأطلق عليها المؤرخون «حروب الردة» بعد انقضائها بزمن.
ولا نشك لحظة فى الآتى: لا حد ولا عقوبة للمرتد فى القرآن، ولا سند ولا دليل فى واقعة حروب الردة، ولا تثبت الحدود بأحاديث الآحاد «والأخير رأى معتبر عند جمهور من المشايخ منهم الشيخ محمود شلتوت» وهذا عن حديث الآحاد «من بدل دينه فاقتلوه»- وهنا لنا وقفة- كيف يسرى هذا الحد على غير المسلم إذا ترك دينه إلى دين آخر، وخصوصًا أن هذا الحديث قد ستر الناس وكتموا عنه ما جاء فيه «من سب نبيًّا فاقتلوه» فيكون المقصود «أى نبى وأى دين».
على اعتبار أن النص عام «من سب نبيًّا فاقتلوه ومن بدل دينه فاقتلوه» ومن ثم فإن الحديث على عمومه وشموله يغطى كل من ترك دينه يُقتل، فإذا ترك يهودى دينه واعتنق المسيحية يُقتل، فمن يا ترى صاحب الحق على أديان الله حتى يمد سيفه إلى رجل ترك دينه إلى دين آخر لا صلة له به ويقتله؟ ويخرج منها المشايخ كما تعودنا على هذا النحو «بأن الخروج من دين غير دين الإسلام إلى دين غير الإسلام هو خروج من الكفر إلى الكفر.
وأن النبى حين ذكر (الدين) إنما يقصد الدين الحق وهو دين الإسلام» (إن الدين عند الله الإسلام) من خرج منه يُقتل، وأتساءل: وماذا عمن سب نبيًّا فاقتلوه؟ أما عمن «ترك دينه» فالمقصود تارك الدين من الذكور، فإن الأحناف وجدوا لها مخرجًا، أن المرتد يُقصد به الرجال فقط دون النساء «المرتدة لا تُقتل».
وحكاية الحديث فى البخارى عن عكرمة أن عليًّا أتى بزنادقة فأحرقهم، وبلغ ذلك ابن عباس فقال (لو كنت أنا لم أحرقهم لأن الرسول قد نهى عن تعذيب الناس بما يعذب به الله، ولقتلتهم لقول النبى من بدّل دينه فاقتلوه) ومن غير المعقول أن يعلم ابن عباس بحديث عن الرسول وقد كان طفلًا صغيرًا، ولا يعلمه على ابن عمه وصفيه وربيبه وصهره ثم يأتى بعكسه، وكل الروايات عن هذا الحديث المتعددة تنتهى عند عكرمة.
وهو مولى «خادم» بن عباس، وفضلًا عن كونه حديث آحاد «ولا يعمل به» فإن عكرمة مطعون فيه، وكان عبد الله بن عباس يضربه على باب بيته ويقول «يكذب على أبى» والأمانة تقتضى ألا نأخذ عن ابن عباس رواية عن على بن أبى طالب لشبهة التدليس، فقد كان الخلاف بينهما شاسعًا وعنيفًا، وتبادلا التهم فيما بينهما، هذا يتهم صاحبه وابن عمه بسرقة مال المسلمين، وذاك يتهم الآخر وابن عمه بقتل المسلمين، وهذا خطاب أرسله ابن عباس ردًّا على رسالة اتهام من «على» له باستيلائه على مال المسلمين حين كان واليًا على البصرة فى خلافته «أما بعد، فقد أكثرت علىّ، فو الله لئن ألقى الله بجميع ما فى الأرض من ذهبها وعقيانها أحب إلى أن ألقى الله بدم رجل مسلم».
خلاصة القول أن حد الردة «اختراع فقهى سياسى، فكيف لكتاب الله الذى لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها يتغافل عن هذا الحد؟ وليس أعظم من قتل النفس؟ وقد جاءنا القرآن بحدود أدنى وأكثر تحملًا، إلا أن رجال الدين والفقهاء كانوا أكثر حرصًا على الدخول طرفًا فى الصراع السياسى المحتدم بين الخلفاء، وأن يكون لهم الغلبة والريادة، فضلًا على أن كافة التفسيرات والتعليلات والتبريرات والحلول والإجابات لم تكن تخرج عن حدود العلوم الدينية.
ولم يكن مقبولًا سوى رأى رجال الدين يستندون إليه ويوافقونه سلمًا أو حربًا، ولم يكن للعلوم الأخرى مجال أو شأن أو قبول، فقد كان رجال الدين يشرعون ويحكمون ويقننون والناس وقوف حقًّا كان أو باطلًا، ولما تراجع هذا النفوذ فلابد من مراجعة كل ما وضعوه فى تاريخهم سواء كان هذا حماية للدين أو للسلطان.
الإيمان لا يحميه السيف ولا يثبت أركانه، ولا حاجة للدين لمن أذعن واستسلم ودخله دون إرادته قهرًا وغصبًا، ولا يدافع ويذود عنه إلا العقل والفكر والاقتناع، «من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فعليها» هذا ما يردده مشايخنا منذ قرون ويحملون فى نفس الوقت سيف الردة، فمن يا ترى نسير خلفه ونصدقه؟!.
نقلا عن المصرى اليوم