محرر الاقباط متحدون
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد أمين
صاحب الغبطة الأنبا إبراهيم إسحق بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك. سيادة سفير دولة الفاتيكان في مصر المونسينيور نيقولاس هنري تيفينن.
حضرات الآباء الأساقفة أعضاء سينودس كنيستتنا القبطية الكاثوليكية. الآباء الكهنة والرهبان والراهبات، وكافة المكرسين الحضور. الحضور الكرام من الأكليروس من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. إخواتي وأخواتي الأحباء شعب إيبارشية قسقام، أهلي وضيوفي الكرام.
"فَإِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئًا، فَافْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ اللهِ" (1 كو 10: 31).
ربَّما كانت هذه الآية، أنفع وأرفع، وصية لاهوتيّة تركها لنا مُعلِّمُنا القدِّيس بولس الرسول، في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، غير أنَّ التَّساؤل الَّذي لا أنفك أطرحه على نفسي، منذ لحظات اختياري لتلك الكلمات "فافعلوا كل شيء لمجد الله" كشعار لأسقفيتي، هو :"كيف نترجم مجد الله إلى واقع حي معاش معاصر، نعيش فيه ويعيش فينا".
الشاهد أن حبرنا الأعظم البابا فرنسيس، قدَّم لنا الجوابَ بالفعلِ، في حديثه إلى خُدَّام المذبح في أغسطس من عام 2018، بقوله: "أن نخدم مجد الله في كل ما نفعله، هو المعيار الأساسي لأفعالنا، وخلاصة معنى عيش الصداقة مع يسوع، إنه الإرشاد الَّذي يوجهنا عندما نكون غير واثقين من الشيء الصحيح الَّذي ينبغي فعله والَّذي يساعدنا لنتعرف على صوت الله في داخلنا".
إنَّ مجد الله هو أحد التَّعابير اللاهوتية الجذَّابة الَّتي يُمكن أن يفكر بها الإنسان، لكن ما الَّذي يعنيه مجد الله بلغة قريبة من مفاهيمنا الحياتية اليومية؟.
إنَّ تمجيد الله، هو مدح صفاته، ومنها قداسته وأمانته ورحمته ونعمته، كذلك ذكر عظمته وسلطانه، قوته وجبروته، وترديدها في أذهاننا أثناء الليل وأطراف النهار، وإخبار الآخرين عن طبيعة الخلاص المنفرد، والَّذي يقدمه لنا الله وحده.
يُعَرِّفُ القدِّيس "إيريناوس"، مِنْ أعمال القرن الثَّاني الميلادي، "مجد الله"، بأنَّه الإنسان الحي، وبمزيد من التفصيل :"إن مجد الله هو الإنسان الحي وحياة الإنسان هي رؤية الله".
أتساءل اليوم معكم: "كيف يمكننا أن نفهم معنى ومغزى هذا القول لأحد كبار ملافنة الكنيسة الكبار؟ قطعًا، يتجلَّى مجد الله في محبة القريب، بل والغريب، الأصدقاء والأعداء، ولاسيما في الأوقات والأزمنة الصعبة.
إنَّ مجدَ الله نراه في الفقير والمسكين، في اليتيم والأرملة والضَّيف، يتجلَّى مجدُ اللهِ حينَ نخرج من ذواتِنا إلى الأخرينَ، المُعوز والمحتاج بوجه خاص، المريض حين نعضِّدهُ، والسجين حين نزوره، الجائع حين نطعمه، والعريان حين نكسوه، هذا هو مجد الله الحقيقي.
وبقدر ما ينظر الإنسان إلى ذاته بأنانية، وينغلق عليها، يتلاشى هذا المجد الَّذي هو هدف نهائي وغاية مثلى لكل فعل، وعوضًا عن أن يشرق الله نورًا من خلالِنا، يأتي المساء الَّذي لا يستطيع فيه أحد عملًا.
يشعُّ مجدُ اللهِ على الأرضِ في الحبِّ الَّذي به نتجاوز ذواتَنَا إلى الآخرين، ومن خلالهم نصل إلى الله. إننا مازلنا نعيش في اليوم السادس حيث خلق الله الإنسان، ولكنَّ الله يدعونا لكي ندخل في اليوم السَّابع، حيث أظهر الله مجده وبهاءه من خلالنا، يوم الرب الحاضر فينا، وعلينا أن نصنعه بفرح بإظهار مجد الله من خلال محبتنا للآخر المختلف.
من لا يحب أخاه، لا يمجد الله، بل يعش في غربةٍ، وهو ما ينطبق على المجتمعات الَّتي تعيش روح الحضارة المادية الاستهلاكية، البعيدة عن روح التضامن والشركة، التضحية وتقديم الآخر على الذات.
رُبَّما لا تكون المدينة الفاضلة للفارابي ودانتي، موجودة إلَّا في عقول الفلاسفة والمفكرين، لكن من الممكن عبر محبة الله وتمجيده، أن نسعى إلى بناءها في عالمنا المعاصر، المُصاب بأزمات كبيرة وخطيرة.
أيُّها الأحبَّاء، في هذا النهار المبارك، الَّذي أبدأ فيه خدمتي الأسقفية، أطلب من الله بصلواتكم أن يباركها ويكللها لمجده تعالى، تنطلق مسيرة أسقفية قسقام للأقباط الكاثوليك، في هذه البقعة الجغرافية العزيزة على قلبي، أرض المولد والنشأة، الصبا والشباب، والخدمة البكر.
وسطكم أهل القوصية – قسقام، لا أستطيع أن أداري، فخري واعتزازي، بالتاريخ المجيد لهذه المدينة المباركة، الَّتي استقبلت العائلة المقدسة الَّتي لجأت إلى أرض مصر، أرض الكنانة، لتحتمي فيها مع طفلها يسوع.
القوصية الغالية، أو "كوساي" باللغة الهيروغليفية، أحد أقدم عشر مدن في تاريخ مصر الفرعونية، وقد تأسست عام 1725 قبل الميلاد، وهي مهد الأسرة السادسة عشرة ، حيث كانت موطن للإلهة حتحور.
أمَّا الحدث الَّذي ينبغي أن يفخر به أبناء القوصية مسلمين ومسيحيين، فهو أنَّه على أرض هذه المدينة، والَّتي تحور اسمها لاحقا إلى "أورايس"، كانت معركة الفرعون المصري أحمس الأوَّل الحاسمة، حيث قاد جيوش المصريين لهزيمة الهكسوس المحتلين.
ظلَّت القوصية منذ زمان وزمانين، موطنًا للتَّنوير الإنسانيّ والإيمانيّ والوجدانيّ، وبصورة خاصَّة منذ منتصف القرن الماضي، ومن القلب أقول إن المودات القائمة والقادمة بين أبناء هذه المدينة، أمر فريد وغير مسبوق، في كافة التّخوم من حولنا، وتشهد بذلك مدرسة الكاثوليك التاريخية، الَّتي خرَّجت أجيال من حملة مشاعل التنوير في مدينتنا، عطفًا على الدَّور التنويري لراهبات المحبَّة، وديرهن العامر، وما قدمنه ولا يزلن في خدمة الإنسان بدون تمييز عبر ثمانية عقود تقريبًا وحتَّى الساعة.
أيُّها الأحبَّاء، دعوني أقول وبكل محبة، إنَّ أبواب أسقفية قسقام للأقباط الكاثوليك، ستكون مشرَّعة من الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لجميع أهلنا بكل الحبِّ والمودَّات، تحمل الإنسان في قلبها، ساعية لمجد الله في الحال والاستقبال.
ولعلي لا أتجاوز الحقيقة إن قلت إنَّ القوصية العامرة، قد عرفت طريقها إلى الحوار المسكوني باكرًا جدًّا، ولا أغالي، إن قررت صادقًا، أن ذلك سبق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
لقد ولدنا وترعرعنا في ظل رائحة بخور لكهنة قديسين قدموا ما لا يمكن أن تنساه الأجيال على مر التاريخ، وإن ننس فلا ننس العلَّامة القمُّص ميخائيل متى، أستاذ العهد القديم، وجغرافية الكتاب المقدس، العالم المفوَّه والخادم الأمين لعقود طوال.
ومعه نتذكر القمُّص عبد المسيح نخله الفائق الاحترام، استاذ القانون الكنسي والأحوال الشَّخصيَّة. وضمن الكوكبة اللامعة القمص بشارة غبريال الجار جغرافيا والأب روحيا وابتسامته الصادقة في شرفة منزله لنا ونحن صغار نمر من أمام داره.
لقد مثَّل هؤلاء جسورًا للتلاقي والتواصل، بمحبة مسيحية مسكونية، ولمسنا من خلالهم سعيًا صادقًا في طريق تنفيذ وصية السيد المسيح "ليكونوا واحدًا"، الراحة الأبدية أعطهم يا رب والنور الأبدي فليشرق عليهم.
الأخوة الأحباء، أحد الأسئلة الَّتي لابد وأن تراود اذهانكم، هو ذاك الَّذي يدور حول الاسم الَّذي أخترته لأسقفيتي مرقس.
والسؤال لماذا دون غيره من الأسماء المباركة؟ حكمًا أوَّل الأمر، لأنَّه كاروز الدّيار المصرية، والَّذي حمل البشرى السارة لأرض مصر، الَّتي استقبلته بقلبها وعقلها معًا، وقد شهد منزله في فلسطين المباركة، الأرض المقدسة، العشاء الأخير، ورسم سر الإفخارستيا.
إنَّ مرقس الرَّسول هو أحد السبعين رسولًا، الَّذين أختارهم السيد المسيح للخدمة، وإليه يعود الفضل في إنشاء المدرسة اللاهوتية بالإسكندرية الَّتي ذاع صيتها في العالم المسيحي كله شرقًا وغربًا.
وإذ أختار هذا الاسم الكريم والمبارك، فإنني لا أوفِّرُ سبًبا أخرًا، وهو سيرة ومسيرة القمص مرقس تاوضروس، الكاهن التَّقيّ والوَرِع، الخادم الأمين، الَّذي نشأنا في كنفه، وعشنا معه الأسرار الأولى من سر العماد، مرورًا بالمناولة الاحتفالية، وصولاً إلى كتابته خطاب ترشيحي للمعهد الإكليركي وبداية طريق الخدمة والتكريس.
لقد عاش أبونا مرقس حياة البساطة والتواضع، الطهر والعفاف، فكان لنا بمثابة "إنجيلًا حيًّا"، لمسنا في حياته الترجمة الحقيقية للكاهن الغيور على مجد الله منذ أن نبدأ يومنا بقرع أجراس القداس في السادسة صباحًا، وصولاً إلى صلاة المسبحة غروب كل يوم، عطفًا على الصلوات التقوية للأشهر المخصصة والمكرسة للاكرامات التقوية. لقد كان حقًا رجل الله، وإنَّ لي عظيم الشرف أن أحمل اليوم اسمه في أسقفيتي.
إلى أخوتي الكهنة في إيبارشيتنا الجديدة والوليدة قسقام، دعوني أستعير ما قاله يوسف الصِّديق لأخوته، حين أراد أن يظهر لهم حقيقته "أنا مرقس أخوكم"، غير إنَّ يوسف قالها بدموع غزار، فيما أقولها لكم بقلب تملأه المحبة، ونفس تشعر بالسعادة لوجودكم حولي، إنَّه فرح اللقاء بكم ومعكم لمجد الله.
أخواني الكهنة، إن كان هناك ما يمكنني قوله لكم في بدء خدمتي هذه، فإنني أستعير كذلك كلمات بولس الرسول إلى أهل غلاطية: "ليحمل بعضكم أثقال بعض وأتموا هكذا العمل بشريعة المسيح" (غلا: 6:2).
ومعًا، دعونا نتذكر أن القلب الكهنوتي يحمل طعم القرب، لأن الرب هو أول من أراد أن يكون قريبًا بحسب ما قاله البابا فرنسيس. إنَّ القرب من الله يسمح للكاهن بأن يتواصل مع الألم الَّذي في قلوبنا، من جراء سر الإثم الَّذي يعمل في العالم، والَّذي إن قبلناه يجردنا من أسلحتنا لكي يجعل اللقاء ممكنًا.
لتكن مسيرتنا مسيرة صلاة وتأمل، فالصلاة الَّتي تحي مثل نار الحياة الكهنوتية، هي صرخة قلب محطم وذليل، لا يزدريه الله.
معًا نحن في خدمة شعب الله، من خلال قربنا من الله تعال، كان يوحنا المعمدان يقول "ينبغي له أن يزيد ولي أن أنقص".
إنَّ العلاقة الوثيقة مع الله تجعل هذا كله ممكنًا، لأنَّنا نختبر قوة الصلاة، إنَّنا عُظماء في عيني الله، وعليه لن تكون هناك مشكلة أبدًا بالنسبة للكهنة القريبين من الله في أن يصبحوا صغارًا في عيون العالم.
أخيرًا أقول للجميع في هذا النهار المبارك مع معلِّمنا يوحنَّا الحبيب، التَّلميذ الَّذي استمع إلى "دقات قلب يسوع "أنا مرقس أخوكم وشريككم في الضيقة، لكن ليس فقط في الضيقة، بل في ملكوت يسوع المسيح وصبره".
ما الَّذي يتبقى قبل الانصراف؟
قطعا شكر العزة الإلهية الَّتي اختارتني لهذه الخدمة المقدسة، وأتذكر أبي وأمي، وكيفا زرعا في نفسي محبة الله وخوفه، والارتباط بالكنيسة والمداومة على خدمتها منذ كنت طفلاً صغيرًا.
أشكر من القلب صاحب الغبطة الأنبا إبراهيم إسحق بطريرك كنيستنا الجزيل الوقار والَّذي يمثل في تاريخ حياتي مرحلة مهمة وحاسمة، أثرت في نفسي، وطبعت طريقي الكهنوتي، ورسَّخت في نفسي خدمة الكنيسة المقدَّسة.
الأخوة الأحباء: يعزُّ عليَّ جدًا اليوم، أن أقف بينكم، خلوا من أبًا ومعلمًا، مرشدًا وحبيبًا غاليًا، سار معي وسرت معه منذ العام 1985 في الإكليريكية، ومنه تعلمنا الالتزام وقوة الإرادة، والعمل بقداسة في حقل الربِّ، مثلث الرحمات الأنبا كيرلس وليم، والَّذي شاءت إرادة الله أن يسبقنا إلى الكنيسة المنتصرة، مصلّيًا من أجل الكنيسة المجاهدة على الأرض.
يضيق المقام عن ذكر ما لسيدنا الحبيب الراحل في العقل والقلب، في الذاكرة والإرادة من مكانة، وهو الَّذي شدد عزمي، وقوى ضعفي حين دعيت لهذه الخدمة المقدسة، حيث أبديت نوعًا من الخوف الطبيعيّ من جلال وكمال نعمة الأسقفية، فكانت كلماته بحسب رسالة لازلت أعتز بها: "تشجع فالرب الَّذي دعاك لن يتخلى عنك وصلواتنا ترافقك".
وأكثر من ذلك أهداني تاج الأسقفية ووضعه على رأسي، وكأنه كان يعلم موعد مغادرته عالمنا، الراحة الأبدية أعطه يا رب والنور الأبدي فليشرق عليه.
أشكر بنوع خاص صاحب النيافة الأنبا باسيليوس فوزي، الَّذي تحمل عبء تدبير إيبارشية قسقام، منذ أن تم الإعلان عن نشوئها وارتقاءها، سيدنا الحبيب شكرًا جزيلًا لمحبتك فقد كنت المعمدان الَّذي هيأ لي الطريق.
ولا يفوتني الإشارة إلى أن إيبارشية قسقام القوصية، وإيبارشية ليكوبوليس أسيوط، وملاكها الصديق والحبيب والرفيق منذ أربعة عقود صاحب النيافة الأنبا دانيال، هما إيبارشية واحدة متحدة روحيًّا، وإن فُصلت بينهما التدابير الإدارية، وسنبقى واحدًا في المحبة دومًا وأبدًا.
+ الأنبا مرقس وليم
مطران القوصية للأقباط الكاثوليك
الخميس 25 مايو 2023