بقلم/ القس ايمن لويس
رئيس مجمع كنائس النعمة الرسولية بمصر
اعتدنا ان نسمع دائما من الوعاظ من علي المنابر حديث سلبي عن فرعون والمصريين واجدادنا الاوائل، فيما يختص قديمًا ما حدث مع الاسرائيليين اثناء فترة إقامتهم كضيوف مهاجرين للاحتماء في ارض مصر بما فيها من خيرات. وانا كمصري مسيحي بعد قرائة تحليلية متأنية، كان يخالجني صراع داخلي بين عقيدتي المسيحية ووطنيتي المصرية وتعاطفي مع إيماني وايضاً في نفس الوقت مع تعاطفي مع اجدادي العظماء. فخرجت بوجهة النظر هذه في قضية فرعون وموسي، والمصريين والاسرائيليين .. وتحليل تاريخي من واقع القصة بما ورد بالعهد القديم بالكتاب المقدس .. بعيد عن البعد الروحي في القصة.
علي هامش القصة لا ننسي ان ابرام (ابراهيم) لما حدث جوع في ارض كنعان نزل الي ارض مصر، لانها كانت ارض الشبع. وقد تم أكرامه وحفظ عرضه من قبل شعبها وملكها الذي كان علي منصب فرعون .
وهكذا لما حدث جفاف وجوع في الارض ايضاً جاء يعقوب (إسرائيل) وبنيه، ولكن في هذه المرة بدعوة من ابنه يوسف الذي كان اميناً علي بيت من أوكله العهده ثم علي جميع خزائن مصر. فاستوطنوا في بلاد المهجر وانجبوا وتكاثروا وتملكوا وعاشوا وتعلموا وتعاظموا. ولكن من الواضح ان الاسرائيليين لم ينتموا الي هذا الوطن لكنهم اكتفوا ان يستخدموه فرصه ووسيلة لسد حاجتهم وتحسين معيشتهم او يستغلوه لصنع ثروات، فلم يندمجوا في المجتمع المصري بل احتفظوا بخصوصيتهم ولغتهم ونقاء جنسيتهم، مصحوب بشعور بالتعالي والاستعلاء، وقد لاحظ المصريين هذا مما اثار حنقة وحفيظة كل المصريين، قيادة وشعبً .. حتي جاء موسي الذي تربي بالتبني لابنة فرعون في القصر باعلي درجات العلم والكرم المصري، لكنه ايضاً غلبه هوي عنصرية شعبه الذي يحمله في جيناته وتوارثه من اجدادهم فلم ينسي يوماً انه اسرائيلي عبرانيي ، ولم يقبل ان يكون مصرياً ! . فأبي ان يدعي ابن ابنة فرعون ؟! . ومع موسي وصل هذا الصراع للذروة وكان لابد لهذا الشعب المعتد بذاته والذي رفض التعايش والتأقلم مع اوضاع وثقافة بلاد المهجر التي جاء اليها كضيف منذ اكثر من ٤٠٠ سنة ان يرحل . فقد جاء هذا الشعب بشعور الضيف وعاش غريباً بين المصريين باختياره بعاداته وتقليده . فقد تعب الاسرائيلون من تسلط المصريين باستعلاء انهم اصحاب الارض واعظم وأغني امبراطورية في هذا الوقت، وتعب ايضاً منهم المصريين ومن عنصريتهم وأطماعهم ونهمهم في امتلاك الثروات .. فقال لهم موسي: "بَلْ تَطْلُبُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْ جَارَتِهَا وَمِنْ نَزِيلَةِ بَيْتِهَا أَمْتِعَةَ فِضَّةٍ وَأَمْتِعَةَ ذَهَبٍ وَثِيَابًا، وَتَضَعُونَهَا عَلَى بَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ. فَتسْلِبُونَ الْمِصْرِيِّينَ». (الخروج ٣: ٢٢).
فإن كان هناك قسوة من المصريين في التعامل مع الاسرائيليين علينا ان لا نغفل كبرياء وتعالي واطماع واستغلال الاسرائيليين لاصحاب البلد . وكما جاء ابرام ويوسف ويعقوب وولد فيها موسي وعاش وتربي وتعلم ، جاء اليها الرب يسوع ايضاً ليس طامعاً في ثرواتها او مستغلاً لخيراتها لكنه مباركاً لأرضها ومحتمياً في أمنها مستمتعاً بكرم شعبها .
ابداً لا اشعر باي ضيق او خجل من شعبي وناسي وأهلي وفرعون بلادي، فقد اعطوا الخير والأمن والحماية وقت الاحتياج لكل سائل وزائر . واري ان الاسرائيليين كتبوا تاريخهم الديني بنزعة قومية يعلوها العنصرية . فقد قدمت بلدي وقدم شعبي للاسرائيليين اكثر مما اخذ منهم وعوض عن رد الجميل قدموا لنا إساءة السمعة، فاجادوا وربما بالغوا في وصف معاناتهم اكثر مما لفت نظرهم تقدمات المصريين لهم. انه تاريخ اجاد فيه اجدادي بما يجعلني اشعر معه بالفخر ، واخطاء ايضا فيه اجدادي بما يجعلني اعترف بسلبياتهم دون تدليس او عدم تمحيص . فجزء كبير من ثقافة الاسرائيلين التي يفتخرون بها في التعليم والهندسة والطب والمعمار اخذوا أساساتها من هنا من بلدي مصر . فخيمة الاجتماع والنظام الكهنوتي والشريعة الموسوية جميعها أُخذت صياغتها من هنا من الثقافة المصرية .
ولما جاءت رسالة المسيح هدي للبشرية ونور للعالم ، واستلمها اجدادي المصريين ليس من مرقس الرسول بل من الروح القدس مباشرة بتمثيلهم بوفد رسمي بمشاركة الرسل ووفود ممثلة لشعوب وجنسيات اخري عديدة في اهم اجتماع لإعلان ومولد كنيسة المسيح ، كنيسة العهد الجديد في احتفال يوم الخمسين يوم انسكاب الروح القدس، فرجع هذا الوفد المصري الذي نال ونلنا معه شرف هذا الحضور ، وكرزوا لنا في ربوع مصر بانجيل المسيح . فدخل الايمان قلوبنا وبيوتنا وسكن الروح القدس فينا، فصرنا مصريين مسيحيين ، وكم انا فخور بهذا الايمان وهذا الرصيد الرائع ، وفي إيماني علمني المسيح ان الايمان ليس احتلال اوطان او احتقار ها او احتكارها باسم الدين وللدين . بل بركة رضي الرب علي الشعوب التي يسكن في وسطها ، وان الانتماء للايمان لا يتعارض مع الانتماء للوطن بكل ما فيه ومن فيه ، حتي وان كانوا غير مسيحيين ، بل بالعكس علمنا الايمان المسيحي المحبة ، وان حبي لوطني ولشعبي هو من الطاعة لربي، الذي ليس عنصرياً فهو يحب كل العالم، وينحاز للانسان وليس لدين من الاديان .
بحبك يا مصر .. بحبك يا بلدي