رامي جلال
في مثل هذه الأيام منذ ثمانى سنوات، تم اختيارى عضوًا في لجنة صياغة وثيقة تجديد الخطاب الدينى، وهى لجنة كونها الأزهر الشريف، وعقدت اجتماعاتها في مكتب شيخه وتحت رئاسته. وضمت اللجنة عددًا كبيرًا من الأسماء التي تشرفت بالعمل معها آنذاك، مثل: الأساتذة جمال الغيطانى، وصلاح منتصر، ويوسف القعيد، والدكاترة صلاح فضل، ومصطفى الفقى، والسيد ياسين، وناجح إبراهيم، وسكينة فؤاد، وحمدى زقزوق، ومحمد كمال إمام، وغيرهم.
نُشرت وثيقة تجديد الخطاب الدينى بعد عام كامل من المناقشات والاجتماعات، وصاغها د. صلاح فضل، وهى وثيقة جيدة للغاية تؤكد ما هو معلوم بالضرورة من الفطرة الإنسانية.
وجهة نظرى في هذا الموضوع لم تتغير كثيرًا بعد مرور كل تلك السنوات، فمبدئيًّا أي عملية «إصلاح» للخطاب الدينى، (وهذا في رأيى التعبير الأدق من كلمة «تجديد»)، تستلزم بالحتمية قبول الآخر أيًّا كانت طبيعته، مع وجوب الاستماع لآراء غير المسلمين أثناء دراسة مثل هذا الإصلاح. وأعتقد أن حجر الزاوية وواسطة العقد وعمود الخيمة في أي إصلاح دينى هو عملية جراحية دقيقة للغاية تفصل المقدس عن اللامقدس، وتنتزع الدين الإسلامى من براثن التاريخ الإسلامى لأنهما ليسا شيئًا واحدًا، والتوحيد بينهما يصبغ التاريخ بصبغة ملائكية، ويشوه الدين بأخطاء بشرية.
بشكل عام، فإن لكل الأشياء شكلًا ومضمونًا، وهناك الآن بالفعل خطابان دينيان متصارعان: الخطاب الأول له شكل وليس له مضمون، وهو بهذا المعنى خطاب سطحى يدخل القلب لكنه لا يمس العقل ولا يستقر فيه ولا يحقق منفعة تراكمية للأفراد أو للمجتمع، وتجسده مثلًا الظاهرة التي عُرفت باسم «الدعاة الجدد»، وهم مجموعة من دارسى التنمية البشرية، (وهو النسخة العصرية الضحلة من «علم الكلام»)، مع تغليف الأمر بآية كريمة من هنا وحديث شريف من هناك، وهذا في معظمه لدواعى أكل العيش، وتقربًا من بنوك سويسرا وليس من ملكوت الله.
الخطاب الدينى الثانى له مضمون لكنه بلا شكل، وبالتالى فهو مُعقد لا يدخل من بوابات العقل من الأساس لعدم وجود قشرة جذابة، ومن أفضل الأمثلة على هذا الاتجاه إذاعة القرآن الكريم، التي بدأت كإحدى محاولات الدولة للمزايدة على التيار اليمينى المتشدد، وكثيرًا ما يديرها الناس الآن للتبرك دون التركيز في المحتوى، ومَن يقدمون مواد تلك الإذاعة، من المذيعين والضيوف، يتحدثون بلغة فصحى مقعرة، وكثير منهم يقرأون الأسئلة والأجوبة من ورق بطريقة تُشعرك أنهم روبوتات آلية، يفعلون ذلك برتابة عميقة وإيقاع ثابت، وهى أمور لا تفيد كثيرًا، ولا تجذب الانتباه، بينما الواقع الحالى للبلاد يحتاج إلى أكثر من ذلك بقليل.
«تجديد الخطاب الدينى» مفهوم يحتاج إلى ضبط وتدقيق، والمعانى المطروحة على الساحة الآن للتجديد هي إما العودة إلى النصوص (باعتبارها كافية، ولا داعى للاجتهاد، وهذا تغليب صريح للنقل على العقل)، أو هو التخلص من الثوابت، (وهو طرح لا دينى يسعى لتجديد الخطاب الدينى، وهذا عبث). أو هو الاجتهاد في المتغيرات، مع الحفاظ على الثوابت، (تجديد دون تبديد)، وهذا هو الأقرب إلى المنطق السليم، مع حتمية التحديد الدقيق: ما الثوابت أصلًا؟.
الخطاب الدينى'>إصلاح الخطاب الدينى لا يمكن أن يكون عودة جامدة إلى عصور سحيقة تخطاها الزمن، ومن المستحيل كذلك أن يكون انقلابًا على النسق كله؛ فالاتجاهان تطرف. تقديرى أن ملامح الخطاب الدينى'>إصلاح الخطاب الدينى لن تخرج عن ثلاثة أطر عامة وهى: التمسك بالمنهج الوسطى، (وهو منهج مصرى تراكمى)، وحتمية قبول الآخر والكف عن الإقصاء والتعالى، وترتيب الأولويات وعدم تقديم الفروع على الأصول.
على أي الأحوال، فإن أصل المشكلة الدينية التي نعانى منها الآن ليس دينيًّا بالأساس، بل هو اقتصادى له بُعد دينى، ولذلك فلسان حال البعض يقول: «غدِّينى وبلاش خطاب دينى». ولكن هذا موضوع آخر.
نقلا عن المصرى اليوم