[11] المصادر التى يستند إليها بولس الرسول فى تعليمه (1 من 2)
كمال زاخر
فى تتبعنا لطرح الكاتب ندرك أنه لا يتبنى منهج كتابة المناظرات، أو الكتابة الجدلية، الدفاعية، ولا تستغرقه الكتابة التأملية التى تغازل المشاعر، ولعلنا لاحظنا أنه يقترب من حالة ق. بولس فى نشأتها وتشكلها الحياتى وتطورها الذهنى والاختبارى، ويضع يده على نقطة التحول المحورية، حين باغته الرب يسوع المسيح بظهوره له وهو فى طريقه إلى دمشق، وهو تحول لا يلغى التكوين النفسى ولا يطمس القدرات الشخصية، إنما ينير الذهن ليدرك ويعى كل ما اختزنه عقله من معارف توراتية وناموسية وتعليمية بامتداد سنى عمره المنقضى قبل هذا اللقاء، وفى استنارته هذه يكتشف أن الشخص المحوري فى كل هذا، هو شخص الله المتجسد، وكان هذا الاكتشاف محور كرازته.
دعونا نعيد قراءة ذاك الحوار الذى دار بين الرب وبولس، كما سجله هو فى دفاعه عن نفسه أمام أغريباس الملك؛ فبعد أن يحكى ملابسات ظهور الرب يسوع له يورد الحوار الذى حفر فى ذاكرته (فَقُلْتُ أَنَا: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ: أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. وَلكِنْ قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهذَا ظَهَرْتُ لَكَ، لأَنْتَخِبَكَ خَادِمًا وَشَاهِدًا بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ، مُنْقِذًا إِيَّاكَ مِنَ الشَّعْبِ وَمِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ أَنَا الآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ، لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ إِلَى اللهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِالإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ الْخَطَايَا وَنَصِيبًا مَعَ الْمُقَدَّسِينَ.). (أعمال16:26ـ 18)
ويكمل القديس لوقا مشهد اللقاء، ويعلق كاشفاً منهج القديس بولس، التعليمى المحقق، (وَلِلْوَقْتِ جَعَلَ يَكْرِزُ فِي الْمَجَامِعِ بِالْمَسِيحِ «أَنْ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ». فَبُهِتَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا:«أَلَيْسَ هذَا هُوَ الَّذِي أَهْلَكَ فِي أُورُشَلِيمَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهذَا الاسْمِ؟ وَقَدْ جَاءَ إِلَى هُنَا لِهذاَ لِيَسُوقَهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ!». وَأَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ يَزْدَادُ قُوَّةً، وَيُحَيِّرُ الْيَهُودَ السَّاكِنِينَ فِي دِمَشْقَ مُحَقِّقًا «أَنَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ» أعمال 20:9ـ22).
من هذا نفهم أن المصدر الأساسى عند بولس الرسول فى تعليمه هو شخص المسيح بشكل مباشر "خادماً وشاهداً بما رأيت وبما سَأَظهَر لك به"، "مُحققاً أن هذا هو المسيح".
وفى هذا يعيدنا الكاتب إلى ترتيب المصادر عند ق. بولس تاريخياً تأسيساً على "دراسة العلماء المتتابعة على مدى مئات السنين أصبحت الآن اصول المصادر التى يستند إليها بولس الرسول فى تعليمه أو الينابيع الصادرة منها واضحة لا تخرج عن منبعين:
أ ـ التوراة.
ب ـ تعليم المسيح.
ويربط الكاتب بين المصدرين، عند القديس بولس ويصل إلى نتيجة محددة، أن "بولس الرسول يشرح العهد القديم على ضوء الرؤية التى اكتسبها بالروح من المسيح ولهذا جاءت مُحكمة متكاملة".
ويرى الكاتب أن "الاتفاقات الواضحة بين تعاليم بولس الرسول وبين ما جاء فى الأناجيل، وخاصة انجيل يوحنا، وبقية الرسائل لبطرس ويعقوب ويوحنا وبقية تعاليم الرسل، إنما يُعزى للنقل الشفهى الذى كانت تعتمد عليه الكنيسة كل الاعتماد، منذ صعود الرب وحتى كتابة أول انجيل فى حقبة زمنية لا تقل عن ثلاثين سنة ـ حيث كانت تعاليم الرسل تُحفظ وتُتلى شفاهاً كقانون تعليمى Catechism ـ لذلك لا يوجد أى نشاز أو أدنى تزاع فى المسائل التعليمية وفى الممارسات الكنسية بين بولس الرسول وبقية الرسل، كذلك كل ما يتعلق باللاهوت بالنسبة لله، والمسيح، والخلاص والأسرار والأمور الأخروية."
يعود الكاتب فيؤكد على أن ق. بولس قد استلم تعليمه وإنجيله من المسيح رأساً "بإعلان"، ومعرفته الفائقة فى أمور الخلاص مردها النعمة الفائقة التى وهبها له المسيح كنور فائق أضاء وعيه المسيحى، "ولكن لا أنا بل نعمة الله التى معى" (1كو10:15).
كانت التوراة فى نسختها السبعينية بروحها التقوية هى محل تلمذة القديس بولس، وقد تم ترجمة التوراة فيها إلى اليونانية، "خصيصاً من أجل يهود الشتات الذين عاشوا بعيداً عن وطنهم وعن لغتهم العبرية والآرامية، ومعها كل مواريثها القديمة من مفهومات واصطلاحات تقوية من التاريخ الروحى للآباء بكل ما يحمل من تراث تعليمى وتوجيهى ومواعيد ورجاء، فجاءت السبعينية لتوصل وتربط يهود الشتات بميراثهم وتراثهم من جديد"، واللافت أن تكون خدمة وكرازة ق. بولس للأمم، عبر يهود الشتات ومعهم.
كان للتوراة فى ترجمتها السبعينة دوراً رئيسياً فى أن يكون "الخط الأساسى الغائر فى نفسية بولس وروحه وفكره هو الخط التقوى"، "لذلك سهل عليه بعد أن أدركه المسيح وأدرك هو المسيح أيضاً، أن يدرك وبسهولة أنه بالمسيح انتهى الناموس وفقد قوته الأساسية فى ربط اليهودى بالله، وخاصة عندما كمُلت فى المسيح كل المواعيد التى فى الناموس، ... وأن المسيح هو نهاية خط التقوى المرسوم فى التوراة ... لذلك جاءت تقوى بولس الرسول فى رسائله تعبِّر أعظم تعبير عن تقوى العهد القديم متوَّجة بقداسة المسيح وجلال تقواه".
ويتوقف الكاتب ملياً مع اقتباسات القديس بولس العديدة من التوراة، التى تؤكد روح التقوى عنده، ويتتبع تلقائيته السريعة فى الإيمان ثم الكرازة والتى لا تبلغ فى مدتها الزمنية أكثر من اسبوع حسب رواية القديس لوقا فى سفر الأعمال.
ولعل هذا، بحسب الكاتب، هو السر وراء "التعاليم الأخلاقية المكثفة فى رسائل بولس الرسول وتنظيمها وتقنينها، وسرد عيوب السلوك وإصلاحها، وتوعية الضمير، وأعمال النسك الروحى وأماتة الأعضاء التى على الأرض، وواجبات العبادة الصادقة، فهذه كلها انطباعات تقويَّة من واقع روح التوراة، التى كان يعيش عليها القديس بولس ويتحرك، والتى سلط عليها نور المسيح الذى هو المثل والنموذج الأعلى للتوراة الروحية الحقيقية."
وفيما يشبه الإستدراك يطالبنا الكاتب "بالتمييز بين تقدير بولس الرسول العالى للتوراة وبين مناداته بإلغاء الناموس، وهو الجزء من التوراة الذى أبطله المسيح بظهوره، بالفداء الذى أكمل به الناموس"، فالناموس فى صرامته رسخ فى الذهن ضرورة الخلاص والفداء. فلما جاء المخلص والفادى انتهى دور الناموس وأُطلق سراح المحبوسين."
ويؤكد الكاتب أن "أول من استخدم الرمزية فى التعليم هم الأنبياء بل ربما الله نفسه، ليقرب إلى ذهن الإنسان وحواسه استعلان شخصه وصفاته، فظهور الله كنار مشتعلة هو أقوى رمز أو تشبيه عن طبيعة الله، التى صيغت بالكلمة بعد ذلك (لأن إلهنا نار آكلة) (عبرانيين 29:12).
ويورد الكاتب العديد من التشبيهات التى برع ق. بولس فى استخدامها، لشرح ما أُغلق فهمه فى التوراة، فخرج بها من حدود القصة الضيقة إلى معانى أعلى وأوسع، ومن حدود الحرف إلى الروح. مقتدياً بالرب يسوع ، ويعلق الكاتب "هذا الأسلوب الإبداعى فى إخراج الروح من الرمز هو بمثابة إعطاء كلمة التوراة المغلقة والضيقة أجنحة تطير بها فى سماء الروح لتحط على الحقائق الأزلية."
ويتتبع الكاتب دور القديس بولس فى استنباط مبادئ وأفكار جديدة فى المسيحية مستوحاة من التوراة لشرح وتعميق الإيمان المسيحى، وكيف أن ممارسات العهد القديم وطقوسه كانت "ظل الحقائق"، لينقلنا إلى الحقائق التى فى المسيح يسوع، ويعقد مقارنات ممتدة بين ما كان فى العهد القديم وما صار فى المسيح يسوع وكنيسة العهد الجديد؛ الفصح القديم والفصح الجديد، المن النازل من السماء الذى لا ينقص ولا يزداد، وقد وظف حالة الكفاية من المن ليحث الكنائس الغنية أن تسخى فى عطائها ـ بقدر وتقسيط معاُ ـ لفقراء اورشليم "فَإِنَّهُ لَيْسَ لِكَيْ يَكُونَ لِلآخَرِينَ رَاحَةٌ وَلَكُمْ ضِيقٌ، (أى لا يعطوا من أعوازهم فيصيروا فى ضيق) بَلْ بِحَسَبِ الْمُسَاوَاةِ.(أصل روح الاشتراكية) لِكَيْ تَكُونَ فِي هذَا الْوَقْتِ فُضَالَتُكُمْ (المالية) لإِعْوَازِهِمْ (الجسدية)، كَيْ تَصِيرَ فُضَالَتُهُمْ (الروحية بالدعاء) لإِعْوَازِكُمْ (الروحية)، حَتَّى تَحْصُلَ الْمُسَاوَاةُ. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«الَّذِي جَمَعَ كَثِيرًا لَمْ يُفْضِلْ، وَالَّذِي جَمَعَ قَلِيلاً لَمْ يُنْقِصْ». (كورنثوس الثانية 13:8ـ 15).
ويرصد الكاتب مقارنة بولس الرسول بين نور التوراة على وجه موسى ونور المسيح الذى اشرق فى قلوبنا بالإنجيل، وكيف أننا جميعنا ننظر مجد الرب بوجه مكشوف (بدون برقع كما كان الحال مع موسى).
ويعلق الكاتب "هنا يمكن تجميع رؤية بولس الرسول فى القول بأن تَطَلُّعنا فى انجيل المسيح هو فى حقيقته تطلع دائم فى وجهه الإلهى الذى يضئ قلوبنا بحضرته، فيغيرنا إلى مجد، ومن مجد إلى مجد، شريطة أن يكون تطلعنا فى الكلمة قوياً لصيقاً كما فى مرآة، بدون برقع الخطية، نعدِّل عليها صورتنا كل مرة لتكون (على صورة مجده)" ... ويؤكد الكاتب مجدداً "أن المسيح (عند بولس بيقين) هو التوراة الجديدة الحقيقية بصفته الحامل لطبيعة الله والمعلن عنها".
ينتقل الكاتب إلى المصدر الثانى الذى يستند إليه بولس الرسول فى تعليمه وهو "تعاليم المسيح" وسنعرض له فى مقال قادم.