سحر الجعارة
سوف يذكر تاريخ مصر أن عصابة الإخوان قد غيّرت دستور البلاد، ووضعت نصاً دستورياً قلّص عدد قضاة المحكمة الدستورية من 19 إلى 11 عضواً، خصيصاً لعزل المستشارة «تهانى الجبالى» نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا المصرية سابقاً. إنها المرأة التى وقفت ضد «مرسى» منذ اللحظة الأولى لتوليه رئاسة مصر، وهاجمته بشدة عقب الإعلان الدستورى فى 2012 معلنة أنه فقد شرعيته كرئيس للجمهورية.
دفعت «الجبالى» منصبها ثمناً لمواقفها، ولا أظنها نادمة، وعادت لصفوف المناضلين.. تتفق أو تختلف مع مواقفها اللاحقة على 30 يونيو.. لكنك لا تملك إلا أن تحترم تاريخها وصلابتها.. وتقدمها إلى خط المواجهة حين تَراجَع بعض الرجال.
لم تكن «تهانى» تحلم لنفسها، بل كانت تحلم لهذا الوطن.. نفس حلم الدكتورة «عائشة راتب».. عاشت «راتب - الجبالى» فى وعى ثورة 30 يونية، عاشت حلماً ثم واقعاً يؤكد أن ما بذلتاه من نضال لم يضع سدى.. فكم من الشهداء سقطوا فداءً للوطن ليأتى يوم تجليس جميع القاضيات على منصة القضاء مع زملائهن من القضاة، بحيث تحضر ضمن تشكيل المحكمـة كمفوض دولة على مستوى الجمهورية؟.. كم طفلاً تيتم وزوجة ترملت وأماً ثكلى لتخلع المرأة برقع «العورة» عن وجهها وتتجمل بسمت العدالة.. بالدستور والقانون؟.
أنا أعتبر هذا الإنجاز تتويجاً لكل ما حققه نظام 30 يونيو للمرأة المصرية، المشهد الجليل الذى عشناه بعودة المرأة المصرية للقضاء ودخولها مجلس الدولة هو «عنوان الانتصار».. و«الحرية»: لقد تطهر الوطن من تنظيم إرهابى يئد المرأة وينفيها من الخريطة السياسية ويقضى على كل فرصها فى «الحياة والوجود».. كنت أردد أيام الإخوان الملعونة: «هذا نظام يحذف الإعلام من أجندة الوطن ويعيد النساء لعصر الجوارى.. ويرسم خريطة جديدة بالدم»!.
بعض النساء اقتنعن للأسف بأنهن «عورة»، وأن أحكام الرجال مُنزّلة من السماء.. ورغم أن المرأة المصرية الآن «وزيرة ومحافظة وقاضية» ولكن تظل شهادتها منقوصة «نصف شهادة» وكأنها فاقدة الأهلية!.
«إنها لا تصلح للولاية».. هذه الجملة التى كان يرددها المشايخ كانت كفيلة بإبعادها عن مراكز «القيادة العليا» ومنها القضاء.. فمع صدور دستور الإخوان فى ليلة مظلمة من تاريخ مصر عام 2012، تم إسدال الستار على وجود المرأة فى مراكز صنع القرار، واخترع حزب «النور» وضع «وردة» بدلاً من صور المرشحات على قوائم الحزب لأنها «عورة»!.
حتى جاء الرئيس «عبدالفتاح السيسى»، فى عام المرأة 2017، خلال احتفالنا بذكرى ثورة 30 يونيو 2017، ووجّه ضربة موجعة لأنصار الخطاب السلفى الذى يقوض حركة المرأة، فكان قراره بتعيين المستشارة «رشيدة فتح الله»، عضو المجلس الأعلى لهيئة النيابة الإدارية، رئيساً للهيئة.
لقد اتخذ الرئيس قراره دون صدام مع تيارات دينية متطرفة، مستنداً -ربما- لرأى الدكتور «على جمعة»، مفتى مصر السابق، فى تفسيره لحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولّوا أمورهم امرأة)، الذى ظل سيفاً مصلتاً على رقابنا، حتى قال «جمعة» إن الرسول كان يقصد بقوله «الروم» وليس عموم الناس.كان لا بد أن تدرك المرأة أن «الحرية» ليست منحة ولا هبة، إنها حق لا بد أن ينتزع بجدارتها واستحقاقها.. ويبقى السؤال: هل يمكن أن تتغير «الثقافة السائدة» بقرار سيادى من قمة هرم السلطة؟!.. فى رأيى نعم، لقد اعتاد الرجل الشرقى عموماً أن المرأة «تابع» له، وأن حريتها لن تتحقق إلا عندما يقرر أن يفك أغلالها.. وأنها «ملكية خاصة»: يمنحها عصمتها فى يدها أو يسحب منها «حضانة الأطفال»، يهجرها فى الفراش أو يحكم عليها بـ«النشوز».. يتحرش بها أو يقتلها دفاعاً عن الشرف!.
إنها «مفعول به» فى كل الأحوال، فالجنة تحت أقدامها إذا ما رضى عنها «مولانا»، أو هى أكثر أهل النار إذا غضب عنها «صاحب العمامة».. إنه يتحكم فى مصيرها «دنيا وآخرة».. فإن لم تر المرأة هذا «النموذج» وتتحلى بطموح جارف للوصول إليه فهذا يهدر بعضاً من الصورة.. صحيح أن تعيين القاضيات هو تحقيق للمادة 11 من الدستور.. ولكن إن لم يغير هذا فى «الوعى المجتمعى».. وأيضاً وعى المرأة بذاتها وقدراتها فليس لها أن تنوح وتولول.
لقد دخلت المستشارة «تهانى الجبالى» التاريخ لأنها «آمنت بنفسها»، لم يكن لديها ثروة ولا سند، بل كانت هى سند عائلتها.. وحين خرجت من القضاء كان خروجها إيذاناً بمخاض جديد تولد فيه مصر من جديد أكثر بهاء وطهراً وقوة.
لقد كانت واحدة من قضاة مصر الذين أصدروا الحكم بسقوط الإخوان.. وجعلوا الحكم مشفوعاً بالنفاذ فى ثورة 30 يونيو.. ثم ابتعدوا عن الساحة لكنهم أقوى من الغياب.
نقلا عن الوطن