محمود عابدين يكتب:
لأني عشقت مدينة الفيوم الرائعة بعد أن زرتها للمرة الأولى منذ 40 عامًا تقريبًا.. فقد زادت سعادتي حينما زرتها للمرة الثانية ضمن رحلة جميلة مع وفد رائع من زملائي كبار الصحفيين في مثل هذه الأيام من العام الماضي.
عددنا في هذه الرحلة اقترب من الـ 50 صحافيا وصحفية من مختلف.. حضر جميعنا – بحسب الموعد المتفق عليه - أمام مبني نقابتنا العريق بشارع عبد الخالق ثروت، في تمام السادسة صباحا.. ثم تحركنا بأتوبيس سياحي راقي جدا حتى وصلنا إلى متحف كوم أوشيم.
داخل المتحف عدد من التماثيل الأثرية التي تشتم فيها رائحة الحضارة المصرية القديمة وعظمة تاريخ أجدادنا، إضافة إلى عدد من اللوحات الفنية المميزة التي يمتد عمرها إلى آلاف السنوات - كما تروى القصص والأساطير المختلفة - كل ذلك داخل متحف مميز وسط منطقة صحراوية بطريق القاهرة - الفيوم الصحراوي بمنطقة كوم أوشيم.
يقع المتحف عند مدخل مدينة كرانيس الشهيرة، وهو أحد أهم المتاحف فى مص؛ يتكون من طابقين ويحتوى على 320 قطعة أثرية مختلفة.. أحد أثريي المكان شرح لنا أن سيناريو العرض المتحفى بشكل مبهر، موضحا أن كل ما رأينا في المتحف يحكى فترات مهمة من تاريخ الفيوم، وعادات وتقاليد قاطنيها منذ أقدم العصور، وكذلك الفكر الدينى الذى اعتنقه أهل المدينة على مر العصورز
الزيارة الثانية كانت للسبع سواقي.. والتي جلبت الشهرة السياحية للفيوم، بجانب العديد من المزارات الأخرى، بينما تعتبر تلك المنطقة مقصدا هاما لمواطني الفيوم وغيرها للذهاب إلى هذا المكان الأثري والتقاط الصور التذكارية عنده.
مع ملاحظة أن الفيوم بها أكثر من 200 ساقية موزعة في جميع أنحاء المدينة.. والتي تدار بقوة دفع المياه.. وتستخدم في نقل المياه من منسوب أدنى إلى منسوب أعلى دون وجود أي آلات أو ماكينات.. وتتميز بصوتها الذي يشد الأذان، حيث تذهب أنظار السائحين المصريين والأجانب إليها، للتعرف على عبقرية المصري القديم في مواجهة مشاكل الري.
يزيد عمر تلك السواقي عن 2000 عامًا بحسب تأكيد المختصين، وقد تم ابتكارها في العصر البطلمي، بعد أن امتهن قدماء المصريين مهنة الزراعة، وتعتبر هذه البقعة الجميلة من أرض المحروسة منخفضة جدا، وتلبي حاجة الفلاح القديم في الري من أدنى منسوب إلى منسوب أعلاه، وهو الأمر الذي جعله يفكر في وسيلة لرفع هذه المياه إلى أرضه الزراعية، ومن هنا استغل البطالمة شلالات بحر يوسف، في دفع سواقي الهدير، لتجلب لهم المياه من أسفل إلى أعلى قوة دفع للمياه ذاتها وإلى تلك السواقي.
الزيارة الثالثة تم تخصيصها لمحمية وادي الريان والتي يتواجد بها العديد من الشلالات والحيوانات والتشكيلات الصخرية، إضافة إلى البحيرة المشار إليها كمقصد سياحي، يرغبه الأهالي بشكل دائم طوال العام للاستمتاع بالمناظر الطبيعية المتواجدة فيهن ويشتهر الوادي بشلالاته العديدة وجمالها الطبيعي ويعتبر بيئة طبيعية للحيوانات البرية والطيور المهاجرة النادرة، حتى أعلنت منطقة وادي الريان محمية طبيعية بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 943 لسنة 1989 والمعدل بالقرار رقم 2954 لسنة 1997 بهدف حماية الموارد البيولوجية والجيولوجية الفريدة بالمنقطة.
بدأت البحيرتان الموجودتان بوادي الريان في التشكل عام 1973 عندما تم غمر المنخفض الصحراوي بالوادي بفائض مياه الصرف الزراعي، وبذلك تتشكلت البحيرة العليا ومساحتها حوالي 55 كم² والبحيرة السفلى ومساحتها حوالي 58 كم²، ونشأت حول شواطئها أحراش من البوص موفرة بيئة طبيعية وهادئة وخالية من التلوث، فيما يصل بين البحيرتين، شلالات وادي الريان الشهيرة.
كما يتضمن الوادي أيضا من عدة مناطق هامة هي: منطقة الشلالات التي تصل بين البحيرتين، منطقة عيون الريان أو "واحة العيوان" الواقعة في الجنوب الغربي من المحمية وتبلغ مساحتها حوالي 23 كم²، وتتكون من كثبان رملية كثيفة متحركة، ويوجد بها أربعة عيون طبيعية كبريتية وتحتوي على 16 نوعاً من النباتات الصحراوية، وبالقرب منها يوجد نخيل البلح والعبل والحجنة وحوالي 15 نوعاً من الحيوانات أهمها الغزال المصري والفك وثعلب الرمال والثعلب الأحمر والذئب المصري وحوالي 16 نوعاً من الطيور المقيمة والمهاجرة.
أما الزيارة الرابعة، فكانت إلى قرية تونس الواقعة على ضفاف بحيرة قارون ،فهي قبلة للسائح والباحث عن الهدوء والاستجمام، كما انها مقصدا للراغبين في أجواء المغامرة وممارسة نشاطات مختلفة، فيها يكون الاستمتاع بين الخضرة والماء والصحراء والسكون التام والحركة والحيوية في مكان واحد، فضلاً عن متعة معايشة سكانها البسطاء الذين ستجدهم يرحبون بك كما لو كنت أحد أفراد عائلتهم.
في هذا السياق، لا بد لنا من الحديث عن السيدة "إيفلين السويسرية" قرية تونس وأهلها الطيبين، تلك القرية التي تستمد سحرها من الطبيعة الخلابة إلى أن تغيرت وأصبحت وجهة سياحية مع الاحتفاظ بطابعها البيئي، وذلك حين زارها زوجان فوقعا في غرام المكان، وفكرا - من فرط جماله وهدوئه - في الاستقرار به، وهما: شاعرنا المبدع سيد حجاب، وزوجته الفنانة السويسرية إيفلين بوريه، المولعة بالخزف، والتي ازدادت عشقاً للقرية بعدما شاهدت السكان يحترفون صناعة الخزف والفخار على الطريقة المصرية القديمة، وكانت هذه هي نقطة تحول القرية.
إيفيلين – كغيرها من عاشقي مصر الأجانب والعرب – أحبت قرية تونس لما تتمتع به من خصوصية وسحر وجمال، فأنشأت مع زوجها بيتا لهما في ذات المكان على طريقة القباب والأبواب السائدة بالقرية القريبة من طراز بيوت تونس العتيقة التي تحيط بها الخضرة من كل جانب، وحتى عندما انفصلت ايفيلين عن زوجها، قررت الاستمرار في الإقامة بالقرية، وتأسيس أول مدرسة لتعليم وتصنيع الخزف والفخار والسجاد اليدوي في المنطقة، وبالتدريج أصبحت القرية المجهولة مركزاً عالمياً للفن والسياحة ترتاده شتى الجنسيات، ومعرضاً دائماً للفنون اليدوية تقام له مهرجانات سنوية دولية، بل أُطلق عليها اسم "عاصمة للفنون في الريف المصري".
ارتدت ايفيلين ملابس الفلاحين وأكلت من طعامهم، وتحدثت باللغة العربية، وتكره من يتحدث معها بالإنجليزية، نظمت مهرجان تونس الأول للفخار في عام 2011، وكان سببا في شهرة القرية، جذبت «إيفيلين» العديد من الفنانين والمشاهير لقرية تونس، مثل الفنان محمد عبلة والمعماريين الشهيرين عمر الفاروق وحسن فتحي- دعت الكثير من أصدقائها إلى «تونس» فاستقروا بها وافتتحوا عدة فنادق بها، كما اشتهر فخار تونس في جميع أنحاء العالم، وأصبحت تصدر لبلجيكا وفرنسا وسويسرا والبرازيل والعديد من الدول الأجنبية والعربية.
تخرّج من مدرسة إيفيلين عشرات الطلاب الذين أصبحوا من أشهر الخزافين، تضم "تونس" أكثر من 30 ورشة لصناعة الخزف والفخار، كما شاركت في العديد من الأعمال الخيرية، وخصوصًا توفير مشروعات للفتيات والأرامل والمطلقات، كانت الخزافة السويسرية تحلم بأن تحصل على الجنسية المصرية، لكنها فشلت في تحقيق حلمها وماتت قبل أنّ تأخذها، بنت قبرًا لنفسها بجوار مدرسة الفخار، داخل حديقة منزلها، ولكنها لم تدفن فيه، لكن تم دفنها في مقابر الأقباط بالقرية الثانية بمركز يوسف الصديق، ووضع معها زهور وأغصان من أحد الأشجار، التي زرعتها بنفسها في حديقة منزلها، وتحبها كثيرًا.
وبذلك تركت إيفلين قبل رحيلها عن عمر يناهز الخامسة والثمانين في شهر أبريل من العام 2021 إرثا فنيا عالميا يخلده لها التاريخ، ،وتخليداً لذكراها، عقد المجلس التنفيذي لمحافظة الفيوم اجتماعه الدوري ، برئاسة المحافظ يوم الخميس 17 يونيو 2021، وبحضور مدير الأمن، نائب المحافظ، السكرتير العام المساعد، وأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، ورؤساء المراكز والمدن، ووكلاء الوزارة ورؤساء القطاعات، حيث ناقش المجلس عدة موضوعات، أبزرها ضرورة إطلاق اسم الخزافة السويسرية الراحلة إيفيلين بوريه، على أحد شوارع قرية تونس، بالفيوم، تخليداً لذكراها.
جدير بالذكر إنه في نفس المكان ( قرية تونس ) قمنا بزيارة متحف الكاريكاتير.. والذي شيده الفنان التشكيلي محمد عبلة داخل مركز الفيوم للفنون، بعدما جاء إلى قرية تونس في زيارة خاطفة - خلال ثمانينات القرن الماضي - لتوصيل هدية من سويسرا إلى الخزافة السويسرية إيفيلين بوري، ومن روعة المكان وسحره، قرر هذا الفنان البقاء في المكان بعدما سحره كل شيء فيه، ومن ثم قرر، عدم العودة إلى حيث أتى، واشترى قطعة أرض في القرية ليشيّد عليها مركزا للفنون، وأصبح هذا المكان كما سبق وأشرنا هو أول متحف للكاريكاتير في الشرق الأوسط.
ما سبق كان جزءا من كل عن القرية الجميلة، التي استمتعنا فيها أيضا بتناول فلاحي مميزة، يقبل عليها ويعشقها كل من سبق له زيارة المكان، أبرزها "الفطير المشلتت الفلاحي والمش والعسل"، إضافة إلى وجبات: البط، الحمام، الخضروات مثل: الملوخية وغيرها، والتي يزرعها مواطنو الفيوم في أراضهم دون أسمدة – كما أكدوا لنا - أي أنها "أورجانيك"، لذلك كان طعمها مختلف ولذيذ جدا.
نضف إلى ذلك إنه ومنذ اللحظة الأولى لزيارتي مع زملائي الصحفيين إلى قرية تونس، لفت انتباهنا – بشدة - انتشار أشجار الزيتون والنخيل بكثافة في هذا المكان، فبجانب الفنادق الكثيرة الموجودة في شارع إيفلين - وهو الشارع الأطول والرئيسي بالقرية - توجد عشرات الفلل والقصور الرائعة التي تتميز بالهدوء المطلق، وحمام سباحة خاص، وطراز معماري أكثر من رائع، يعتمد على القباب.
وإحقاق للحق، فقد استمتعنا كثيرا بالمناظر الخلابة قرب بحيرة قارون، وذلك أثناء تناولنا بعض الأطعمة والمشروبات الخفيفة في مكان هادئ، بينما كنا ننظر إلي البحيرة ونتأمل اتساعها، ونرقب الطيور النادرة والمهاجرة في موسمها الذي يتوافق مع الشتاء، إضافة إلي استئجارنا لمركب في رحلة ممتعة بالبحيرة كي لنشاهد غروب الشمس بكل روعته، أما عن الأجواء الرومانسية الخاصة، فقد قضينا وقتا أكثر من رائع مع ركوب الخيل.
بعد ذلك قمنا بزيارة "وادي الحيتان"، والذي يمثل وجهة سياحية متفردة ويضم كثيراً من هياكل كاملة لحيتان كانت تعيش في تلك المنطقة، وتقف عظام فك وأضلاع وفقرات الحوت الضخمة أفقية في الأرض وتمثل شكلاً مذهلاً سيثير دهشتك، واختارته اليونسكو واحداً من أفضل مناطق التراث العالمي.
وبنفس المتعة وسحر المكان وعبق التاريخ زرنا "البحيرة المسحورة"، والتي تتغير ألوانها على مدار اليوم مع أشعة الشمس التي تغطيها بالكامل، وهو ما أكسبها اسمها، وفق روايات البعض من أهل المكان؛ على الرغم من تأكيد ابعض الآخر بأن هذه البحيرة الموجودة وسط الصحراء والمحاطة بالجبال من كل الاتجاهات غير معلوم مصدر تغذيتها بالمياه المتجددة ذات المنسوب الثابت، ذلك أن مصدرها مجهول للآن.....!!
وبإطلالة خاصة من أعلى "جبل المدورة"، يظهر لنا فيه الرواسب البحرية القديمة مثل كهوف الملائكة، والذي يرجع تاريخه إلى 45 مليون عام.
أخيرًا.. وفي معرض حديثنا عن المدينة الساحرة، نشير هنا إلى إنه منذ أكثر من أربعة قرون مضت، وتحديدًا عام 1615 ميلادية، بدأت أرض الفيوم في الكشف عن بعض كنوزها الثمينة، وذلك حين عثر زائر إيطالي برتبة "لص"، ويدعى بيترو ديلا فاليه، علي أول بورتريه، لتتوالي الاكتشافات الأثرية بعد ذلك.
هذا اللص الأثري، استطاع أن يسرق عدد من هذه اللوحات التي لا تقدر بثمن ليرسلها بدوره إلى أوروبا، وتحديدا داخل قاعات "ألبرتينوم" بمتحف الفن الحديث في مدينة "دريسدين" الألمانية، وطيلة القرون الأربعة الماضية، عُثر أيضا في مقابر الفيوم على 900 لوحة فنية، مازالت على حالتها الأولي، لما تتمتع به المنطقة من مناخ حار جاف.
الملاحظ في تلك البورتريهات التي عُثر عليها، انها كانت ملتصقة بمومياوات تعود إلى العصر الروماني، كما انها تمتاز بطبيعة فريدة، بها انفتحت مصر على العالم الخارجي، بعد أن كانت منغلقة على نفسها، فيها رُسم الوجه كاملاً من الأمام، وملتفتًا في بعضها قليلاً إلى اليسار، تصور بعض الأشخاص الذين عاشوا منذ أكثر من ألفي عام، ورغم اختلاف البعض حول طبيعة تلك الوجوه، ما بين مصرية، ويونانية رومانية، أو حتي بيزنطية، إلا أن الأسماء المكتوبة عليها يونانية، والملابس والتسريحات والحلي ذات طابع روماني.
أيضا لهذه الوجوه طابعًا فريدًا وخاصا بها، إذ لم تكن أبدا مجرد رسوم جنائزية تقليدية، وإنما رسوم شخصية تُظهر ملامح الشخص المدفون داخل التابوت، تميل إلى الفن الإغريقي الروماني، كما تتميز بنظراتها الهادئة الخالدة، ما جعل الفيلسوف والروائي الفرنسي أندرية مالرو يصفها بإنها "وجوه تتطلع إلى الحياة الأبدية، بل إنه يعتقد إنها وجوه حقيقية تطابق الواقع، أو كأنها تمثل منطقة وسط بين الحياة والموت، لذلك تُعد تلك اللوحات مزيجًا بين الحضارات الثلاث، الفرعونية، اليونانية، الرومانية".
رُسمت لوحات الفيوم بأربعة ألوان أساسية، الأبيض، والأصفر، والأحمر، والأسود، وكانت تُستخدم في رسم الشعر والوجه، أما الألوان الإضافية، مثل الأزرق، والأخضر، والأرجواني فاستخدمت في تلوين الملابس والمجوهرات والتيجان، ما شكل تناغمًا رائعًا، وقد أُضيف اللون الذهبي إلى المجوهرات والتيجان وزخرفة الملابس، وكانت تستخدم لذلك، إما أوراق الذهب الأصلية، أو لون يحاكي الذهب، وكانوا يستخدمون بياض البيض للصق ورق التذهيب على اللوحة المرسومة بألوان الشمع، وهو ما ورثته الحضارة البيزنطية فيما بعد.
السؤال الأهم الأن، من هم أصحاب تلك الصور؟.. هل هم مصريون؟.. أم ينتمون إلي جنسية اخري؟.. وللإجابة على هذه الأسئلة وغيرها لابد من التوضيح بأننا حتي اليوم – بحسب الخبراء - لا نعرف سوي بعض من اصحاب تلك الوجوه، خاصة إذا كانت الصور لا تزال على المومياء، وكان الاسم يُكتب على صندوق المومياء، أو على اللفائف، وعلى الآثار المرفقة مع الميت باللغة اليونانية أو بالخط الديموطي، وفي أحيان أخرى كُتب الاسم باللون الأبيض باللغة اليونانية أو بالخط الديموطي على رقبة الشخص في الصورة، وأغلب تلك الاسماء يونانية الاصل، مثل أرتيمدوس، ديموس، هيرميونه.