د.أحمد الخميسي 

الكتابة في عز الحر عقاب، لهذا كان الأستاذ الكبير نجيب محفوظ يتجنب الكتابة تماما في شهور الصيف، وكان هيمنجواي يستيقظ بين الخامسة والسادسة صباحا وقد شرح السبب في ذلك قائلا : " أبدأ كل صباح ما إن يلوح الضوء، لا أحد يقاطعني وحجرة المكتب باردة"، وعلاوة على تجنب هيمنجواي للجو الحار فإنه كان يكتب فقط وهو واقف أمام لوح خشبي عليه الأوراق البيضاء، ثم يسجل في ركن الصفحة عدد الكلمات التي كتبها!
 
 الجو الحار كما هو واضح عقاب صعب على الأديب. لذلك فإنني حين أكتب في عز الحرارة أشعر أنني أجلد نفسي بمقال للتكفير عن ذنبي باختيار طريق الأدب، أجلد نفسي كما يفعل الشيعة تكفيرا عن ذنبهم، وقد أشار ابن خلدون إلى التأثير السلبي للحرارة المرتفعة في البشر حين قال: " إن الشعوب السمراء تتصف بالطيش والطرب بسبب الحرارة التي تجعلهم أسرع فرحا وسرورا من غيرهم" ! الحرارة قرينة الطيش إذن !! أما الفيلسوف الفرنسي "مونتسكيه" فقد تضمن كتابه"روح القوانين" 1748 في الجزء الخاص بعلم الانسان  أن:" المناخ الحار يقترن بالضعف والمكر والجبن"! وبطبيعة الحال لا يمكن الأخذ بصحة ما قاله العالمان الاثنان بشكل مطلق، لكن في ذلك إشارة إلى تأثير الحرارة السلبي خاصة في مجال التفكير والإبداع حيث تتعدد طقوس الكتاب
 
وتختلف، وعلى سبيل المثال فإن العظيم أونوريه بلزاك لم يكن يكتب إلا بعد منتصف الليل حتى الفجر ليتفادى الحرارة والضوضاء. إلا أن هناك طقوسا أخرى لا علاقة لها بالمناخ ، مرتبطة فقط بطبائع الأدباء، وأمزجتهم، فكانت أجاثا كريستي صاحبة أكثر الكتب رواجا في العالم تخطط لحبكة رواياتها فقط وهي في مغطس ( بانيو ) من الماء الدافئ، تسترخي فيه بالساعات حتى تقتنص الحبكة! الأديب الروسي نوباكوف صاحب الرواية الشهيرة " لوليتا" لم يكن يرقد في مغطس لكنه على حد قوله كان يستيقظ في السابعة صباحا ويبقى " مستلقيا في السرير أراجع وأخطط للأشياء، وفي الثامنة أتناول فطوري، ثم أبدأ العمل حتى موعد الغداء". وفي نفس السياق يقول الكاتب الأمريكي العظيم مارك توين إنه لا يستطيع العمل إلا وهو راقد في سريره ليتصيد الحالة الخاصة بالصور العقلية الشبيهة بالحلم. أما مارسيل بروست صاحب " الزمن المفقود " فكان يتفادى الأصوات أساسا لذلك كان يكتب فقط في حجرة عازلة للصوت! بينما لم يكن ليف تولستوي يستسلم لتغيرات المزاج أو الظروف أو المناخ، ويلزم نفسه بنظام صارم قال بصدده :
 
" يجب أن أكتب كل يوم بلا توقف، ولا تهمني الجودة بقدر ما يهمني الالتزام بالروتين". الروائية الشهيرة ايزابيل الليندي تقول إن ابنها ساعدها على وضع نظام عملها حين برمج لها الكمبيوتر بحيث يصدر عنه  جرس كل خمس وأربعين دقيقة لكي تنهض هي وتتجول هذا أو على حد قولها:" يتصلب جسمي وأعجز عن الوقوف في نهاية اليوم" ! وبسبب طقوس عمل الفنانين الغريبة وفوضاهم وقلق أعمارهم عاطفيا وعقليا وفنيا شاعت فكرة شعبية مفادها أن " الفنون جنون"، وهي فكرة غير صحيحة على الإطلاق، لأن الفنون كلها نوع من إعادة تنظيم العالم وتنسيقه في شكل اخر، لهذا فإن الفنان اخصائي في التنظيم وليس الفوضى، حتى في عز حرارة شهر يونيو الذي أكتب لكم فيه هذا المقال تكفيرا عن اختياري الكتابة !!    
***