أسامة سلامة
بمناسبة الضجة التى حدثت بسبب جامع شنودة والذى أطلق عليه هذا الاسم لأنه تم بناؤه فى منطقة عزبة شنودة بقرية نديبة بدمنهور، رفض الكثيرون الاسم باعتباره رمزًا مسيحيًا وتقبله البعض وقالوا إنه مثل كنيسة خاتم المرسلين التى اشتهرت بهذا الاسم لأنها موجودة فى شارع خاتم المرسلين بالعمرانية، فإن الكثيرين لا يعرفون أن مسيحيًا هو من أنقذ جامع عمرو بن العاص من الهدم، وكان أيضًا وراء ترميم جامع ابن طولون، والواقعة ذكرها مرقس سميكة باشا مؤسس المتحف القبطى فى مذكراته التى جمع أوراقها حفيده سمير سميكة وصدرت باللغة العربية مؤخرًا عن مؤسسة سان مارك لتوثيق التراث بعنوان «مرقس سميكة.. شاهد على تاريخ الوطن والكنيسة»، يقول: «أثناء تولى الأمير محمد على شقيق الخديو عباس حلمى الثانى الرئاسة الشرفية للجنة حفظ الآثار العربية اقترح الأمير فى أحد اجتماعاتها هدم جامع عمرو بن العاص وإعادة بنائه على نحو يليق بعظمة الإسلام، ولكن قوبل ذلك المقترح بالرفض بإجماع أعضاء اللجنة الذين صرحوا بأن مهمتهم الأولى تتمثل فى المحافظة على هذه المبانى القديمة وليس هدمها أو إعادة بنائها مما أثار حفيظة الأمير وقام على أثرها بتقديم استقالته رغم كل المساعى المبذولة لإقناعه بالعدول عن قراره».. وكان سميكة وقتها عضوًا باللجنة ومن أشد المعارضين لهدم المسجد وهى اللجنة التى أصبح رئيسها التنفيذى بعد وفاة السير هارى لاروز فارنال عام 1928، وكان تعيين قبطى رئيسًا للجنة المكلفة فى المقام الأول بترميم الآثار الإسلامية فى ذلك الوقت يعد إنجازًا فريدًا يشهد على خبرة سميكة وشغفه بالحفاظ على التراث، أما عن جامع ابن طولون، فيقول سميكة: «أثناء فترة رئاستى للجنة التنفيذية للجنة حفظ الآثار طلبت منحة بقيمة 40 ألف جنيه لترميم جامع ابن طولون الذى كان فى حالة متداعية للغاية وكان هذا المبنى الذى بناه ابن طولون عام 879 ميلادية من أجمل المبانى فى إفريقيا وهو من أهم الآثار الإسلامية وتم إرسال مذكرة إلى وزارة المالية التى أدرجت المبلغ فى مشروع الميزانية»، ولولا ما فعله سميكة واهتمامه لانهار المسجد وخسرنا واحدًا من آثارنا المميزة.
ولكن من هو مرقس سميكة الذى قام بهذه الأعمال الجليلة؟ هو مؤسس المتحف القبطى وكان عضوًا فى مجلس شورى القوانين والجمعية التشريعية ومجلس المعارف الأعلى والجمعية الجغرافية الملكية والمجلس الأعلى للآثار العربية وعضو مجلس إدارة جمعية الآثار القبطية، كما عمل فى منصب مرموق بمصلحة السكك الحديدية لفترة غير قليلة قبل أن يعتزل العمل ويتفرغ للاهتمام بالآثار وخاصة القبطية ونظرًا لجهوده فى هذا المجال حصل على رتبة الباشاوية، وخلال هذه الرحلة الطويلة ارتبط بعلاقات وثيقة مع الحكام والسياسيين المصريين والأجانب والمندوبين الساميين البريطانيين، وكان أيضًا له دور بارز داخل الكنيسة، فقد كان عضوًا بالمجلس الملى لأكثر من دورة، ولكن العمل الأهم هو جهوده الكبيرة لإنشاء المتحف القبطى والذى خاض من أجل تأسيسه معارك كبيرة، وكانت رحلاته فى المدن والمحافظات المختلفة من أجل جمع المقتنيات القبطية المتناثرة فى الكنائس والأديرة متعبة للغاية فى ظل رفض العديد من رؤساء الأديرة منحه هذه المقتنيات التى كان معظمها مهملا ومرميًا فى الأقبية ومعرضة للتلف فى ظل عدم الحفاظ عليها بطريقة علمية أو إدراك لأهميتها الأثرية، ويكفى للتدليل على ما سبق هذه الواقعة «فقد زار البابا كيرلس الخامس ذات يوم فوجده يُشرف بنفسه على صهر أوانى فضية قديمة تملكها الكنيسة لإعادة تشغيلها وكانت جميعًا تحمل نقوشًا قبطية وعربية تعود للقرنين الرابع عشر والخامس عشر، فعرض سميكة على البابا أن يدفع 180 جنيهًا مقابل الحفاظ على هذه الأوانى فى مخزن كخطوة أولى لإنشاء متحف يضم المقتنيات القبطية ووافق البابا على هذا العرض»، بعدها طاف سميكة بالبلاد لجمع التبرعات لإنشاء المتحف وجمع المقتنيات وجاءت التبرعات من الأثرياء الأقباط وبعض الأمراء مثل حسين كامل وأعضاء مجلس شورى القوانين أقباطًا ومسلمين، كما قدمت الحكومة إعانة سنوية للمتحف وبالفعل تمكن من إنشاء المتحف وافتتاحه عام 1910 وكان أول أمين له، ولعل الوقائع السابقة سواء الخاصة بالمسجدين أو المتحف القبطى توضح الوحدة الوطنية الحقيقية، فالمسيحى حافظ على المسجدين من الهدم والعبث بهما والمسلمون تبرعوا لإنشاء المتحف القبطى، كما تكشف أيضًا عن أهمية الحفاظ على تراثنا والتعامل معه ليس باعتباره مجرد حجارة أو مبانٍ عادية ولكنه تاريخ شعب وحضارة أمة وتراث إنسانى.
نقلا عن روز اليوسف