منى أبوسنة
بفضل وعلى الرغم من الحروب الدائرة الآن في العالم، سواء كانت دولية مثل الحرب الروسية الأوكرانية أو إقليمية مثل الحرب الأهلية السودانية، أود أن أطرح في هذا المقال رؤية مستقبلية تنشد تجاوز «الوضع القائم» وتغييره «بوضع قادم»، على حد تعبير د. مراد وهبة، يتجاوز الصراع ويؤسس للسلام، هذا مع الوعى الكامل بمدى خطورة ظاهرة الصراع وتأثيرها على مستقبل البشرية مما يلزمنا بضرورة الاجتهاد من أجل اكتشاف وطرح رؤى بديلة ومغيرة لمستقبل الحضارة الإنسانية.
«إنسانية جديدة» مصطلح متطور من مصطلح «إنسانية كلاسيكية» في سياق كوكبية معاصرة، وهذا المصطلح المتطور يمثل تراكمًا للمسار التاريخى للحضارة الإنسانية ابتداءً من عصر النهضة في القرن السادس عشر ثم التنوير في القرن الثامن عشر وانتهاء بالثورة العلمية والتكنولوجية في القرنين العشرين والواحد والعشرين. وبهذا المعنى فإن النزعة الإنسانية تمثل المسار الحضارى برمته، والذى يتطور من حكم الأسطورة إلى حكم العقل. وجذور هذا المسار تكمن في فجر الحضارة مع بزوغ وعى الإنسان بوجوده. وهذا الوعى بدوره يكمن في قدرة الإنسان على التحكم في العالم وتغييره لإشباع حاجاته اللامتناهية، وفى مقدمتها المأوى والمأكل. وترتب على ذلك أن الإنسان بعد أن كان محكومًا من الطبيعة لملايين السنين وموضوعًا للطبيعة، أصبح بفضل وعيه إنسانًا متحررًا من عبودية الطبيعة وذاتًا واعية بالتاريخ. وبهذا المعنى يمكن القول إن الوعى الإنسانى هو العامل الحاكم لمسار الحضارة الإنسانية، وقد كان هذا التطور يمثل حركة صاعدة من وعى بدائى عاجز عن التحكم التام في العالم الخارجى بسبب غلبة الأسطورة على العقل في بعض الأحيان إلى مستوى أرقى من حيث القدرة على الوعى بالقوانين التي تتحكم في الطبيعة استنادًا إلى اكتشاف العلوم التجريبية.
وتأسيسًا على ذلك يمكن القول إن وعى الإنسان بمسار الحضارة قد تبلور مع بزوغ «النزعة الإنسانية» من حيث هي حركة فلسفية واجتماعية ابتداء من القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر، والتى قيل عنها إنها إنسانية خاصة بعصر النهضة وبالإصلاح الدينى الذي بدوره تطور إلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر. دعا عصر الإصلاح الدينى إلى تحرير العقل من المؤسسة الدينية، وأطلق حرية العقل في فهم الكتب المقدسة وتأويلها أما عصر التنوير فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، وامتد بالحرية إلى جميع مجالات الحياة، وبذلك طور العقل إلى الحد الذي يمكن أن يُقال فيه إن عصر التنوير هو أساس كوكبية القرن الحادى والعشرين.
ولفظ «الكوكبية» مشتق من اللفظ اليونانى Globus، ومعناه كوكب الأرض، من حيث هو وحده بلا حدود أو تقسيمات بما في ذلك الزمان والمكان، وذلك بسبب الثورة العلمية التكنولوجية، وهذه الظاهرة المتعددة أفضت بدورها إلى ثورة المعلومات والشبكة العنكبوتية التي تميز المجتمع الكوكبى المعاصر، الذي أطلق عليه بيتر دراكر مصطلح «مجتمع المعرفة» من حيث المعرفة هي المصدر الأساسى الذي يمكن أن يحل محل وسائل الإنتاج التقليدية الثلاث: الأرض والعمل ورأس المال.
وفى كتابه المعنون «وقائع جديدة» المنشور في عام 1982 يعرف دراكر المعرفة بأنها معلومة تغير شيئًا ما، وذلك إما بأن تكون أساسًا للفعل أو أساسًا لتحريض الفرد أو المؤسسة على إحداث فعل مؤثر. ثم هو يميز بين المعلومة والمعطيات والمعرفة، وبالتالى فإنه يرفض المفهوم التقليدى عن المعرفة من حيث هي «النص المطبوع» لأن هذا النوع من المعرفة ليس معرفة إنما مجرد تجميع معطيات صامتة. وبعد ذلك يدعم تعريفه للمعرفة بهذه الظاهرة المتنامية، التي هي وحدة المعرفة، والتى يُقال عنها إنها نوع من العلوم المتباينة والمتداخلة. ويرى دراكر أن التطور الجديد دليل قاطع على استحالة إنتاج المعرفة من علم واحد على غرار ما كان يتم في القرن التاسع عشر.
ويعرف دراكر المعلومة بأنها المبدأ المنظم للعمل والمبدأ الأساسى للعمليات البيولوجية وليس للعمليات الآلية. ومع ظهور الكمبيوتر أضاف دراكر معنى جديدًا للمعلومة من حيث هي المبدأ المنظم للإنتاج، وبذلك فهى مهمة لبزوغ حضارة جديدة.
ويرى دراكر أن «مجتمع المعرفة» عبارة عن بشر يطلق عليهم مصطلح «عمال المعرفة»، وهو مصطلح متطور من مصطلح «أصحاب الياقات الزرقاء» فمنذ عام 1970 بسبب أصحاب المشروعات الخاصة، الذين رفعوا أجورهم ومن ثَمَّ حولهم إلى «طبقة وسطى» وإلى رأسماليين، وبذلك تغير أسلوب حياتهم، وقد استعانوا بمفهوم النسق في توظيفهم للمعرفة من حيث هي وسيلة للإنتاج.
والسؤال بعد ذلك: ما العلاقة بين النزعة الإنسانية ومجتمع المعرفة؟
قبل الجواب عن هذا السؤال، تلزم أولًا الإشارة إلى الإشكالية، بل قل المعضلة إن شئت الدقة، التي تواجه الإنسانية الجديدة المنشودة، وهى تتمثل في الآتى: بزوغ ظاهرتين كوكبيتين أولاهما الرأسمالية الطفيلية التي تمثل انحرافًا حضاريًّا عن مسار النظام الرأسمالى الذي يقوم على الإنتاج وتنمية الثروة من خلال العوامل الثلاثة: وهى الأرض والعمل ورأس المال. بالإضافة إلى كل ذلك، فهذا الانحراف قد أطاح بالتاريخ الأوروبى الذي مهد لنشوء الرأسمالية، وفى المقدمة من ذلك الإصلاح الدينى والتنوير.
فمنذ مطلع السبعينيات من القرن العشرين، رصد مراد وهبة هاتين الظاهرتين وأطلق عليهما تعريفه الشهير «الرأسمالية الطفيلية» و«الأصولية الدينية»، وتتمركز الظاهرة الأخيرة في تنظيم الإخوان المسلمين وما أفرزه من تنظيمات إرهابية مثل القاعدة وداعش وغيرهما. ويجدر التنويه هنا بالتقرير المهم الذي نشرته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بعد حرب أفغانستان على الاتحاد السوفيتى بأن الطائرات الأمريكية كانت تذهب إلى أفغانستان مُحمَّلة بالسلاح والعتاد، وتعود مُحمَّلة بالمخدرات التي انتشرت وقتها في باكستان ووصل عدد المدمنين إلى نحو اثنين مليون مدمن. من الواضح أن تعريف الرأسمالية الطفيلية يشير إلى تكوين ثروات بدون عمل أو إنتاج بل الاتجار فيما هو غير مشروع على مستوى كوكب الأرض. وحيث إن هذه التجارة تزدهر في ظل الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية التي تتزعمها التنظيمات الإرهابية من الطبيعى أن يتم التلاحم بين هاتين الظاهرتين. وقد كان من نتائج هذا التلاحم إضعاف المبدأ الأساسى الذي قامت عليه الرأسمالية، وهو العمل والإنتاج، مما أدخلها في نفق مظلم أطلق عليه جورج سورس، المفكر الاقتصادى الشهير، «الرأسمالية المالية»، التي تتاجر بالمال أيًّا كان مصدره، وكان أيضًا من نتائجها بزوغ النتوء الحضارى، أي التلاحم بين الرأسمالية الطفيلية والأصولية الدينية، وإسقاط الاتحاد السوفيتى على يد جورباتشوف ومن بعده يلسون.
هذه مجرد مقدمة لمحاولة لتناول الحرب الروسية الأوكرانية من زاوية جديدة تنطلق من الظاهرة سالفة الذكر، وأعنى بها تلاحم الرأسمالية الطفيلية والأصولية الدينية، وأستعين في هذه المحاولة بالحديث التلفزيونى الشيق، الذي أجراه المحاور والمذيع المرموق، دكتور عمرو عبدالحميد، مع الفيلسوف الروسى الشهير، البروفيسور ألكسندر دوجن، وللحديث بقية.
نقلا عن المصرى اليوم