القمص يوحنا نصيف
ضرب السيّد المسيح مثلاً جميلا عن ملكوت الله، ووصفه بأنّه عشاء عظيم، دُعِيَ إليه كثيرون، وللأسف لم يُقَدِّروا الدعوة واعتذروا عن الحضور، ففتح أبوابه وأدخل المساكين وأصحاب العاهات ليملأوا بيته، ويستمتعوا بنعمته وغناه.. (لو14: 15-24). ويُقدِّم القدّيس كيرلّس الكبير تفسيرًا وافيًا لهذا المَثل الهام، مع بعض التأمّلات اللطيفة، فيقول:
+ كان الربّ يأكُل عند أحد الفرّيسيّين، بصحبة آخَرين كثيرين مجتمعين من أصدقاء دعاهم إلى الوليمة، وهكذا فإنّ مخلّص الجميع لكي يفيد أولئك المجتمعين هناك، فإنّه يقود هذا الذي دعاه إلى الكمال..
+ دعونا أوّلاً أن نتساءل.. ما السبب في أنّ المدعوّين قد دُعُوا إلى عشاء، وليس إلى غذاء؟ بل بالحري وقبل هذا أيضًا، مَن هو الإنسان الذي قيل عنه في المَثَل إنّه أرسَل عبده ليدعو إلى العشاء؟ وأيضًا مَن هو الداعي؟ ومَن هم الذين دُعُوا، ولكنّهم احتقروا الدعوة؟!
+ المقصود بالإنسان هنا هو الله الآب. إنّ التشبيهات قد صِيغَت لتُمَثِّل الحقيقة، ولكنّها ليست الحقيقة نفسها؛ لذلك فخالق الكلّ وأبو المجد صنع عشاء عظيمًا، أي عيدًا لكلّ العالم تكريمًا للمسيح.
+ إذن ففي أزمنة هذا العالم الأخيرة ظهر الابن لأجلنا. وفي ذلك الوقت أيضًا عانى الموت لأجلنا، وأعطانا جسده لنأكُل، لأنّه هو الخبز الذي من السماء الواهب الحياة للعالم. ونحو المساء أيضًا، وعلى ضوء السُّرُج كان يُذبَح الخروف، بحسب ناموس موسى. لذلك، ولسببٍ معقول نقول إنّ الدعوة التي بواسطة المسيح تُدعَى عشاءً.
+ مَن هو الذي أُرسِل، والذي يُقال عنه إنّه عبدٌ؟ ربّما يكون المقصود هو المسيح نفسه. لأنّه مع أنّ الله الكلمة هو بطبيعته إله، والابن الحقيقي لله الآب، الذي ظهر منه، إلاّ أنّه أخلى ذاته ليأخُذ شكل العبد. ولأنّه أيضًا إله من إله فهو ربّ الكلّ، ولكن يُمكِن استخدام لقب "عبد" بصوابٍ عنه، من جهة بشريّته..
+ متى أَرسَلَ؟ يقول: "وقت العشاء" لأنّ الكلمة الابن الوحيد لم ينزل من السماء في بداية هذا العالم، ليصير في الهيئةِ مثلنا، بل بالحريّ نزل.. في الأزمنة الأخيرة.
+ ما هي طبيعة الدعوة؟ "تعالوا، لأنّ كلّ شيء قد أُعِدّ". لأنّ الله الآب قد أعدّ في المسيح لسكان الأرض تلك العطايا التي مُنِحَت للعالم بواسطته، التي هي غفران الخطايا، والتطهير من كلّ دنس، وشركة الروح القدس، والتبنّي المجيد له، وملكوت السموات. وإلى هذه البركات دعا المسيح إسرائيل بواسطة وصايا الإنجيل قبل أن يدعو كلّ الآخَرين، لأنّه يقول في موضع ما بصوت المرنّم: "أنا أُقِمتُ منه مَلِكًا -أي بواسطة الله الآب- على صهيون، جبل قدسِهِ، لأكرزَ بأمرِ الربّ" (مز2: 6).
+ هل كان تصميمهم إذن لصالحهم؟ هل نظروا بإعجابٍ إلى لطف ذلك الذي دعاهم، وإلى وظيفة هذا الذي حمَل الدعوة؟ ليس هكذا، لأنّه يقول: "فابتدأ الجميع للتوّ برأيٍ واحد يستعفون". كما لو كان بغرضٍ واحد، وبلا إبطاء يعتذرون..
+ إنّك تلاحظ أنّهم إذ استسلموا تمامًا وبحماقة لهذه الأمور الأرضيّة، فإنّهم لم يتمكّنوا أن يروا الأمور الروحيّة، لأنّهم إذ قد انغلبوا من محبّة الجسد، فقد صاروا بعيدين عن القداسة، وأصبحوا شهوانيّين وجشعين للثروة. إنّهم يطلبون تلك الأمور السُفلى، ولا يعتبرون بالمَرّة ذلك الرجاء، والمواعيد المذخرة عند الله. كان الأفضل جدًّا أن يربحوا أفراح الفردوس، بدلاً من الحقول الأرضيّة. وبدلاً من الفرحة المؤقّتة، أن يجمعوا أثمار البِرّ..
+ مَن هُم الذين رفضوا أن يأتوا؟ إنّهم بالضرورة هؤلاء الذين وقفوا في صدارة المجمع اليهودي، الذين هم ذووا ثروات طائلة، عبيد الشهوات، الذين عقولهم منصبّة على الربح، الذين يُركِّزون عليه كلّ اجتهادهم.. رفضوا الدعوة ولم يَقبَلوا الإيمان، وظلّوا بعيدًا عن الوليمة، وازدروا بالعشاء العظيم، بسبب عصيانهم المتقسِّي.. لذلك بدلاً منهم، دعا الذين كانوا في الشوارع والأزقّة، الذين يَنتسِبون إلى عامّة الشعب اليهودي.. مثل هؤلاء يمكن أن نعتبرهم مثل عميان وعُرج، ولكنّهم صاروا أقوياء وأصحّاء في المسيح، وتعلّموا أن يعيشوا باستقامة، وقَبلوا النور الإلهي في عقولهم.
+ إنّ الإيمان بالنسبة لجميع الناس هو فِعل إرادي.. ولكن كيف (في هذا المَثَل) أنّ الناس يُلزَمون بالدخول؟!
كان هذا ضروريًّا.. بالنسبة للأمم.. الذين كانوا واقعين تحت نير الشيطان.. ممسوكين بشباك خطاياهم.. جاهلين تمامًا بالله.. فكان يلزم أن تكون دعوتهم بإلحاح، كما لو كانت باستخدام القوّة، حتّى يكونوا قادرين أن يتطلّعوا نحو الله.. لأنّه صالح ومحبّ لجنس البشر، ويريد أنّ جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحقّ يُقبِلون.
[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 104) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف