عاطف بشاي
أدهشنى ذلك الخبر الذى تصدر أعلى الصفحة الأخيرة من جريدتنا الغراء بتاريخ الثلاثاء ٣٠ مايو الماضى عن مغامر إيطالى حقق رقمًا قياسيًّا جديدًا، بعدما سار على الحبل داخل مدينة «ميلانو» الإيطالية على ارتفاع شاهق.. إنه المبهر «أندريا لوريس»، البالغ من العمر ٤٨ عامًا، والذى كسر الرقم القياسى الخاص بالسير على الحبل المشدود أعلى سطح الأرض بارتفاع ٦٧٠ قدمًا.. ودهشتى بالخبر لا تقتصر على المهارة غير المسبوقة للاعب، ولكن لعدم الإشارة أو الإشادة بأننا أيضًا نحرز- كمصريين- أرقامًا قياسية مماثلة فى مجالات مختلفة متصلة باللعب على الحبال ونبرع فيها، محققين نبوغًا يضعنا فى قمة سامقة لا تضارع وتحفل بها مجموعة لا بأس بها من المصطلحات والتعبيرات الشعبية السائدة والأقوال الشائعة، وتعكس شخصية اللاعب على الحبال عندنا بأبعادها الاجتماعية والنفسية المختلفة صنوفًا من الأدعياء والأفاكين والمتلونين والمحتالين والزائفين والمخادعين والمتحولين الذين يرتدون الأقنعة.. وفى المثقفين منهم يبرز الحنجوريون وباعة الوهم والمتحولون من تيار إلى تيار تكتظ بهم الندوات والمناظرات والمهرجانات الفنية والأدبية ووسائل التواصل الاجتماعى وبرامج التلفزيون.. وقد ارتدوا أردية الناشطين والخبراء الأيديولوجيين والنخبة والصفوة والمستشارين وقادة الرأى.
ولا أنسى أنه على مقهى «ريش» العتيد، ومنذ السبعينيات كان الشاعر والمؤلف والمخرج المسرحى الكبير الراحل «نجيب سرور» (١ يونيو ١٩٣٢- ٢٤ أكتوبر ١٩٧٨) يدير عينيه فى الجالسين حوله من بعض المثقفين الأصدقاء، وينهال عليهم بالهجاء المرير، الذى كان يصور من خلاله حالة الفصام الفكرى الذى يعانى منه «اللاعبون على الحبال»، وقد ظهر هذا الهجاء المرير بأبدع ما يكون فى قصيدته «بروتوكولات حكماء ريش»، التى يصف فى ديباجتها النقاد والشعراء والقصاصين والخبراء بكل صنوف الأزمات، ويؤكد متحدثًا باسمهم، فينصح المتلقى إذا أراد أن يتشبه بهم بألّا يقرأ شيئًا.. يكفى أن يحمل طن كتب ويضع بجانبه قنينة بيرة ويشرب ولا يقرأ.. ولو قرأ يجتهد ألّا يفهم شيئًا مما يقرأ.. «فالمفهوم اللا مفهوم/ أو العكس/ حيث لن يسألك أحد عن معنى قولك/ فالمفروض اللا معنى للأشياء والكلمات»، وينصح فى البروتوكول الثالث بعدم الصمت، فالصمت جهالة، والثرثرة الجوفاء فضيلة.. لكن على المتحدث الألعبان أن يحذر أن يتكلم فى لب الموضوع المُثار.. المهم الشكل.. المظهر لا المضمون.
«لتأخذ سمة الأستاذ، وحذارِ أن تنسى البايب والكلمات اللاتينية.. قل فى الواقع.. واصمت لحظة.. قل لا شك.. واصمت لحظة، ثم مقدمة محفوظة فى (فذلكة المنهج) حسب الموجة والتيار.. فالبحر سباق، والموجات ألوف..». ويرى «نجيب سرور» فى النهاية أن هذا النموذج الذى يعيش غير ما يعلن يعانى حالة فصام، وهى أخطر أمراض البشر، وهى التى قادت إلى هزيمة يونيو 1967.. ثم قادت الهزيمة فيما بعد إلى الفساد السياسى والاقتصادى.
وفى ثورة يناير، يتبارى المثقفون الحنجوريون فى مشاركة السماسرة وباعة الوهم والمتاجرين بالوطن ولاعبى الحبل والورقات الثلاث والبيضة والحجر، يجلسون القرفصاء أمام الميكروفونات ليبيعوا الشعارات ويبايعوا أربابهم فى الصباح بالطبلة والربابة ويأكلونهم حين تأتى العشية.. ولهم فى كل مرة ألف تبرير وتبرير، لكن يظل الواجب المقدس تجاه الوطن هو الدافع والمحرك وبوصلة الإنقاذ لشرف مقصدهم ونبل سعيهم.. إنهم مهرجون ومقاولون.. وتجار شنطة يستبدلون قناعًا بقناع، ويتحولون فى «فيمتو ثانية» من تيار إلى تيار ومن مذهب إلى مذهب ومن موقف إلى عكسه فى الفضائيات المستباحة.. ويغيرون الكرافتات من استوديو إلى آخر وهم يلتقون فى «ريش» بين فقرات البرامج ليوصلوا نضالهم العظيم فى المساجلات الفكرية والتطاحن الجدلى وهم يعانون حالة البارانويا المرضية ويدَّعون خوضهم معارك وهمية وغزوات عنترية مع الآخر.
إنهم يرتجلون البطولة ارتجالًا، لكنهم فى حقيقة الأمر تافهون مثل قشرة البطيخ.
ويشير الكاتب الصحفى «مصطفى عبيد»، فى كتابه «هوامش التاريخ»، فى إطار «اللعب على الحبال» إلى أنه حينما تولت جماعة الإخوان المسلمين حكم مصر انقلب كثير من المثقفين والمبدعين المباركين إلى مصفقين ومبشرين بالعهد الجديد وبالرئيس الفذ.. وصل الأمر برجل أعمال شهير عُرف بمساندة الحزب الوطنى فى زمن مبارك إلى نشر صفحات كاملة فى الصحف تأييدًا لمحمد مرسى واستبشارًا بقدومه.. ولما خُلع «مرسى» بإرادة الشعب انقلب المصفقون إلى لاعبين على الحبال، والحقيقة أنه من قبل وصول الإخوان إلى سدة الحكم والنخبة أو الصفوة الأفاضل من المثقفين وقادة الرأى كانوا فى حالة ذعر دائم، فقد أفزعتهم الأغلبية التى حققها الإخوان فى برلمان 2005 واستنكروا ونددوا ثم تجاوزوا وصمتوا.. وأفزعهم انتصار (نعم) المؤمنة ضد (لا) الكافرة فى غزوة الصناديق، مع أنهم وافقوا وتحمسوا لوجود أحزاب ذات مرجعية دينية باسم الديمقراطية.. لقد ذهب هؤلاء اللاعبون على الحبال إلى «مرسى» يؤيدونه ويباركونه.. ويقدمون له القرابين.. ويسلمون الدولة المدنية إلى السلطة الدينية.
نقلا عن المصرى اليوم