الأنبا إرميا
تحدثنا فى مقالات سابقة عن «الملك العادل» وحكمه «مِصر» الذى تولاه من بعده ابنه «الملك الكامل» المتوفَّى سنة ٦٣٥هـ (١٢٣٨م)؛ وقد كان البطريرك آنذاك هو «البابا يوحنا السادس» (الرابع والسبعين فى بطاركة الإسكندرية)، الذى بدأت حَبريته منذ أيام «السلطان صلاح الدين»، واستمرت ٢٧ عامًا إلى أن تنيح سنة ١٢١٦م فى أيام «الملك العادل». ومن بعد نياحة «البابا يوحنا السادس» ظل الكرسى المَرقسى خاليًا قرابة ١٩ عامًا، إلى أن رُسم «البابا كيرلس الثالث» (ابن لُقلُق) ليصير الخامس والسبعين فى بطاركة الإسكندرية.
وقد سبق الحديث عن إغماء «البابا يوحنا السادس» مدة ثلاث ساعات قبل نياحته بيوم واحد. ثم كان أن فتح البابا عينيه وتحدث مع شيوخ أقباط «مِصر» الحاضرين عنده، وسألهم عن تلميذه «منصور» الذى كان مريضًا، فقيل له إنه مات، فطلب منهم أن يكفنوه ويدفنوه، ثم قال: «فأنا غدًا أكون عنده». ثم أُغمِىَ عليه مرة ثانية، ثم فتح عينيه وقال للحاضرين عنده: «يكون بينكم بعدى خلاف عظيم فيمن تقيمونه، ويكون الكرسى بلا بطرك زمانًا طويلاً».
كان «الملك الكامل» يكِنّ محبة كبيرة لأقباط «مِصر». ومما ذُكر من أمره أنه خرج يومًا ما للصيد، وعدى «بحر أبيار» فرأى على ربوة صومعة يسكنها راهب حبيس (لا يغادر مسكنه) مقيمًا بها للصلوات والتعبد إلى الله. فوقف «الملك الكامل» تحت الربوة مناديًا الراهب، فكلمه الراهب ودعا له، فما كان من الملك الكامل «إلا أن شكا إليه وجعًا بقلبه، فصلى له الحبيس على زيت وأعطاه إياه كى يدهُن منه على موضع الوجع، راجيًا الله أن يشفيه؛ فعندما دهن به شُفى فى الحال؛ فصارت له مودة فى قلبه.
وعندما عاد «الملك الكامل» إلى «القاهرة» قرّب إليه قبطيًّا يُدعى «أبا الفتوح» كان قد عيَّنه «الملك العادل» بديوان الجيوش، وكان يثق به. وقيل عن «أبى الفتوح»: «كان يَصَّدَّق (يتصدق) بكل ما يملكه ولا يدخر شيئًا، ويعمل خيرًا مع كل من يقصده من النصارى والمسلمين وجميع الناس، ولم يكُن متزوجًا قط، وهو كامل بكل عمل حسن».
وكان فى تلك الأيام قَس من الفيوم اسمه «داود»، ويُعرف باسم «ابن لُقلُق»، وكان عالمًا إذ قرأ كثيرًا وتبحر فى العلوم الدينية، فأقام لدى «أبى الفتوح» الذى اعتبر «القس داود» معلِّمًا، وكان ذٰلك فى أيام البابا يوحنا السادس الذى لم يكُن راضيًا عن «القَس داود» ولا «أبى الفتوح» لأنه ضافه. وحدث فى ذٰلك الزمان أن مِطران الحبشة مات، وجاء رسول يطلب رسامة مِطران آخر لهم، فلما سمِع «القَس داود» بذٰلك قدم مائتى دينار إلى الملك العادل كى يأمر الأب البطريرك برسامته مِطرانًا للحبشة. فأرسل الملك العادل رسولاً إلى البابا يوحنا السادس يأمره بذٰلك، فأجاب الأب البطريرك أن هٰذا الإنسان لا يصلح لأن اعتقاده يتبع الروم؛ فإن ذهب إلى الحبشة لأفسد إيمانهم وأخرجهم عن طاعة الكنيسة والدولة، وربما قادهم إلى الحروب وسفك الدماء؛ فحين بلغ الملك العادل رد الأب البطريرك لم يجبره على رسامته. وتنيح الأب البطريرك وهو غير راضٍ عن القَس داود وأبى الفتوح.
وبعد نياحة البابا يوحنا السادس، حاول «أبو الفتوح» مساعدة «القَس داود» لدى الملك والشعب فى رسامته بطريركًا، فاجتمع بعدد من الشعب وحاول إقناعهم بسيامة القَس داود بطريركًا فوافقه عدد قليل ورفض عدد كبير، فلم يتمكن من تجميع الكل على رأى واحد. ولم تتوقف محاولات «أبى الفتوح» عن السعى لرسامة «القَس داود» بطريركًا؛ فأرسل إلى الآباء الأساقفة فحضر إليه منهم سبعة، و... والحديث فى مِصر الحلوة لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم