أحمد الجمال
يموت الإنسان على مراحل.. أى «بالتقسيط»، وتظل حياته تذوى قسطًا بعد قسط، إلى أن يحل موعد سداد القسط الأخير، فيتحرر من ربقة الدَّين - دال مشددة مفتوحة - ويغادر بلا عودة، وتتعدد نوعية الأقساط بعددها، فهناك قسط يسدده بالفرح والبهجة، وآخر يسدده بالأمل والطموح، وثالث يسدده براحة البال والطمأنينة، ورابع بالغنى، وخامس بالاستغناء، وسادس بالهم والكرب، وسابع بابتلاءات كالسجن والمرض، وثامن بالافتراق عن الأهل والأصدقاء، وتاسع بمغادرة هؤلاء الأهل والأصدقاء بعد أن يكونوا بدورهم قد سددوا أقساطهم!.
ولقد توقفت، وسأبقى متوقفًا طويلًا، فى حضرة هذا القسط التاسع، وهو مغادرة الأحبة من أهل وأصدقاء، لأن كل مغادر من أولئك المغادرين يأخذ معه جزءًا من حياتنا، إذ ليس الانتقال من غلاف الضوء والهواء مرتبطًا بتوقف وظائف أعضاء الجسد الإنسانى فقط، وإنما فى اعتقادى بتمزق وضمور وجدانه أو قوته الناعمة، إذا اعتبرنا أن الجسد بأعضائه يمثل القوة الصلبة.
أما حكاية تلك الأغلفة فهى من شطحاتى، حيث لاحظت أن الإنسان البشر يبدأ بالتكوين فى غلاف من الظلمة والرطوبة، بعد أن تأتى بذرته من أبيه من عمق مظلم رطب، لتمر عبر ممر شديد الإعتام مزدوج الجدران، لتلتقى ببذرة الأم فى أعماق شديدة الظلمة والرطوبة، ويظل الإنسان قابعًا فى غلافه هذا إلى أن ينضج ويتحتم أن يغادر، فيندفع ليعتدل ويأخذ وضع الانطلاق برأسه، وتساعده الأم فيخرج صارخًا صرخة البهجة التى فهمناها خطأ باعتبارها بكاءً، ليعيش فى غلاف جديد من الضوء والهواء، ويبقى فيه يسدد أقساطه، ويعبر مراحله، إلى أن يتحتم أن يغادر فيستعد، وعند اللحظة الأخيرة يصدر صوت بهجته الذى فهمناه خطأ على أنه حشرجة الألم، لينطلق فى غلاف آخر هو غلاف النور اللانهائى، ومعلوم أن الضوء غير النور، إذ الأول مرتبط بمصدر حرارى، والثانى لا يشترط حرارة حتى يشع.
وقد انطلق صديقى جورج إسحق إلى غلاف النور، وسددت برحيله ومن قبله أصدقاء أعزاء آخرون جزءًا من أقساط حياتى، تمهيدًا للقسط الأخير، ومن ثم المغادرة أيضًا.
عرفته منذ حوالى ثلاثة عقود.. عرّفنى عليه وقدمنى إليه صديقى الغالى الدكتور أحمد عبدالله رزة، الذى رحل أيضًا فى السادس من يونيو عام 2006، وكأنهما كانا قد اتفقا على الرحيل فى يونيو، ولم نستغرق وقتًا قصيرًا أو طويلًا حتى صرنا لا نكاد نفترق.
ووجدت نفسى فى دائرة مكتملة الإنسانية مع أحمد عبدالله وجورج إسحق وجورج عجايبى ونبيل مرقس وزوجته الدكتورة إيناس وسمير مرقس وزوجته الأستاذة فيفيان والدكتور صلاح عبدالمتعال وألفى شند ونبيل عبدالفتاح ومنير عياد ونبيل منير وجمال أسعد عبدالملاك وآخرين.. نلتقى مع الأنبا موسى أسقف الشباب ونذهب إلى دير المحرق، ونفطر رمضان، ونعقد الندوات فى دير راهبات قلب يسوع فى ضيافة الأم العظيمة مارى جورجيت حبشى والأخوات الأخريات، وننقطع لأسبوع أو عشرة أيام فى سلسلة محاضرات وأنشطة ثقافية مع الشباب القبطى فى بيت أسقفية الشباب وأسقفية الخدمات فى منطقة أبوتلات، ونشارك فى دورات المركز القبطى للدراسات فى مدينة نصر، وفى دير مريوط، وفى قاعات حزب العمل أيام عادل حسين، ثم فى ساحات العمل الوطنى العام عندما كان نظام مبارك يستعد للمغادرة!.
كان منزل العم المربى الفاضل الكبير المرحوم الأستاذ كامل مرقس فى الألف مسكن يضمنا بحنان فى عشاء الميلاد، ويطلب جورج إسحق منى أن أُصلى، فأردد: أبانا الذى فى السماء، وكان العم كامل نموذجًا فذًا للمصرى المربى الذى لا تنفصم شخصيته ولا تتجزأ رسالته بين المدرسة والمنزل، لأن أبناءه الثلاثة نبيل مرقس وسامح مرقس وفاتن مرقس، زوجة جورج إسحق، نماذج إنسانية مضيئة بالغة النقاء فى انتمائها الوطنى ونضجها الفكرى وتسامحها الإنسانى.
وكان جورج هو الصخرة التى تتحمل كل عسير يصعب التعامل معه، فإذا به بهدوء وابتسامة- وأحيانا قهقهة وأفكار مرتبة - يجعل العسير يسيرًا وسهلًا.. كان يحب الوطن حبًا امتلك كل كيانه وحياته، ومن ذلك الحب تفرّع حبه للناس أهل وطنه من أى طائفة أو مِلة أو دين أو مهنة أو انتماء أو جهة، وحبه للعطاء المستمر ومساعدة كل من يطلب المساعدة، وكل من يشعر جورج بأنه محتاج لمساعدة، ولا يستنكف أبدًا أن يكلم آخرين يقدرون على المساعدة ليساعدوا المحتاج.. ثم حبه للفن وأهله طربًا ولحنًا وتمثيلًا وإخراجًا، وحبه للحياة من أجل أنها تستحق أن تحب.. وبصير مستميت فى صبره يقيم جورج إسحق الجسور بين من تحطمت الجسور بينهم، طالما أنهم جميعًا يسيرون على جسر الوصول بالوطن لغاياته العظمى.
غادر جورج غلافنا إلى غلاف النور الكلى، حيث ستنا العدرا أم النور تتشفع لنا أمام عرش النعمة.. وكما كتب صديقى النبيل قديس الأصدقاء نبيل مرقس: «بقلوب يملؤها الحزن والحب والفخر نعزى بسلام أنفسنا وأحباءه ووطنه فيه».. وإلى لقاء أخى وصديقى أبى فادى وشادى وشهير.
نقلا عن المصرى اليوم