منى ثابت
لوحة تشكيلية تتسع أمامى.. طيور النورس البيضاء، أقدامها السوداء تصطف بنظام وخشوع على شاطئ بورسعيد.. كورال تسبيح أصواتها صاعدة من العيون المثبتة على المايسترو «الشمس».. سكينة سحابات التسبيح تحمل الأمانة، تزف روح جورج المناضلة.
والروح تناور بحقوق المختطفين فى وداع.. تعبر، فيضىء فى كل قلب تسجيله الخاص.
ضَحّكنا على حال الدنيا يا جورج.. تجلجل ضحكته حتى يدمع، وأجمل قفشاته طوال عشرتنا هى نوادره الشخصية!!، يسخر من استمرار ذهوله من عجايب الناس، رغم يقينه بكوامنهم وأسباب انحراف مزاجهم، وتوهانهم كالمساطيل.. فساد التعليم وأفول الفن ضربا كرسى فى كلوب فرحنا، فاشتبك أصحاب الفرح فى العتمة وخربوا فرحهم!! تدوى ضحكاتنا شجنا وغضبا وعجزا، دوى يذيب جبال الإحباط وينبه خمول الأحلام.. نضحك فنصفو كالأصيل، ونتعافى.
يدخل جورج بيتنا ثم حياة المصريين صاخبا.. لحظات ويصمت لينصت، يٌلاحظ ويسجل ويٌقرر، ولا تنتهى الزيارة بانصرافه أبدا!!.
جورج بورسعيدى أصيل، لا غش ولا كذب فى وطنيته، مهما حاول مرتزقة الراجمون.. جينات نضاله لانتزاع الحريات، كانت لتكفى كتيبة.. صحبة المثقفين الحلمنتيشى الحالمين بالمدينة الفاضلة، ونخبة العلماء والمهنيين والمتطوعين، المؤمنين بالحق العام فى علم وعلاج وفنون رفيعة، أكسبته فضائل المتنورين، إضافة إلى جسارة البورسعيدى.. يجاورهم كالتلميذ النهم للمعرفة، يشحن عزيمته بزٌوادة حق وعدل وانسانية، إضافة لشهيته المفتوحة لمصارعة غباوة العبيد أيا كانت فئاتهم أو مناصبهم.
تعارفنا أسريا فى بداية الثمانينيات.. أيام الوهج، والثقة بما نرجوه رغم أننا لا نرى منه إلا أحلامنا!! سوف وأكيد وضرورى وهنحاول تانى، بقوة صداقتنا النادرة.. كنا قادرين لأننا صُحبة، مختلفين بأرواح متماثلة.. جورج هو الفتيلة الملتهبة، متوثب، لماح، ثاقب كمراقبى الحدود.. لاذع، أو صامت إلى حين ينهض فجأة منسحبا، قامعا إعلان رأيه المفضوح، لأن نغمة نشاز اقتحمت خلوتنا.. خبر ما أثار هلعا، أو ذكرى عزيز أثارت شجنا غرس سكينا فى قلبه!!.
جورج إسحق ابن بورسعيد الباسلة يختار دراسة التاريخ بكلية الآداب.. يدرسه لأجيال، ثم يخرج سريعا من شرنقة أستاذ التاريخ لتلامذة مدرسة القديس يوسف إلى مديرها الشاب... بفضل بصيرة مديرها المربى العظيم كامل مرقص، الذى رآه الأكفأ لمسؤولية إعداد النشء.. يتألق، تتسع إبداعاته وتمتد بخطط تنمية وتنقية الأفكار والوسائل التعليمية إلى عموم مدارس الطائفة.. يأتمنه أستاذه على وديعته الغالية، ابنته «فاتن»، زوجة تستحق مشاركته ثقل أحلامه وويلات إصراره، بصبر المؤمنين.. تنمو القدوة وتمتد أجيالا، وتؤتى حلو ثمارها «فادى وشادى وشهير».. نفرح معا بمولودتينا غادة ونانسى رؤوف توفيق.. نحتفل بكل ميلاد للخمسة أبناء، ثم بدخولهم المدارس.. ويتعهد جورج باستمتاع مدهش بحرث الوطنية فى مهد كل منهم.. كل جمعة فى إجازة الصيف، يصحب الخمسة لزيارة تاريخية.. ومعا نصعد إلى السحاب فى جبل سانت كاترين لترى قلوبهم ويستفهموا.. نحج إلى أراضينا المٌحررة فى العريش، نحكى ونؤكد بالشواهد وحكايات العرايشية.. يغذيهم، نرتوى محبة وصداقة، ويشب صغارنا عفيين يفرحوا العقل والقلب.
يميل الميزان فى مصر، فيندفع بوطنية الجينات داخل سراديب سياسية هى أفخاخ لأمثاله أنقياء الضمير.. يتصادم بفروسية كاشفا صدره لأعداء ظاهرين، لأن كفة الميزان لمست يومنا ومصائر أولادنا.. ينضم للجبهة الوطنية للتغيير مؤسسين حركة «كفاية» 2004، يعلن رفضه للتوريث، يدعو للضغط بإضراب سلمى لإصلاح الوضع الاقتصادى.. يُعتقل 2008 ليخرج سليما، متعافى من الدون كيشوتية، وأحلام الأبرياء المستحيلة نوعا ما، بدفاعه عن حقوق المعتقلين السياسيين.. بالآلام تطهرت جينات جورج البورسعيدية، لذلك ملأ النورس السماء تسبيحا.
عشق جورج جمال الأماكن والنفوس، نافرا علانية من القبح والظلم.. فاختار نغمة موبايله «يا دنيا يا غرامى، يا دمعى يا ابتسامى، مهما كانت آلامى، قلبى يحبك يا دنيا».. وعاش يرد على تليفون أحبابه بضحكة تحضنهم قبل ما عبدالوهاب يكمل غٌناه.. ولم تقصر الدنيا غرامه!! لوّعته ولاعبته فى كل ملاعبها، تاركة جروحا تنفتح وتندمل سرا بمحبة الصحبة.. حتى استقبل حفيده «رمزى» كما سماه، أنامله الناعمة أذابت الجروح وآثارها بنداء «جدو».. لماذا انسحبت يا جورج!!، أين صمودك البورسعيدى، وألعابك السحرية التى اعتدناها كلما همت الشمس على الغروب، ودنا القمر على العبوس!!.
صديقى النقى.. نافست عبدالوهاب بالشدو العملى للدنيا.. فأفسحت لك وتباهت بك بعدما أذاقتك مرارة سكة حقوق الإنسان.. يا ليتك نفذت نصيحة الدنيا غرامك «انس همومك وخلى قلبك خالى.. واحبس دمعك ده دمع عينك غالى»، والكثيرون شهود على دموعك.. يا جورج، صحبتك فى الأفراح وفى الأحزان كانت حلما وصحينا منه.. نازلت المرض بجسارة، ترياق محبيك بتر طريق آلامك فأسرعت.. سلمت أسلحة الأرض طاعة إجبارية، لتنعم بحقوق الفرسان.. سلام يا صاحبى وأشكرك على أيامنا الحلوة.
نقلا عن المصرى اليوم