خالد منتصر
هذا فصل من سيرة ذاتية ليست لشخص ولكنها لجيل ووطن، لفترة كنت شاهدا عليها، من الممكن أن تنشر أو تظل فى الأدراج ، اخترت منها تلك الفترة:

فى فترة الامتياز يتضخم احساسك بأنك مجرد زائدة دودية لا مكان لها ولا فائدة فى الجسد الطبى، منطقة بين المنطقتين ، هناك منطقة وسطى ما بين الجنة والنار على عكس ما قال نزار قبانى ، اسمها منطقة الامتياز ، كانت مهامنا هامشية من الممكن تنفيذها من خلال شخص حاصل على الإعدادية!، نقل كيس دم من بنك الدم للقسم ، هات الأشعات ، خذ التحاليل ، أن تسمع زعيق هرم القسم الهيراركى المرعب ، من الأستاذ ،للأستاذ المساعد ،وهبوطا حتى النائب ، كل أخطاء وخطايا المرضى ، من رحل منهم ،ومن داهمته المضاعفات، هى بسببك أنت أيها الغلبان المسكين الذى لا حول لك ولا قوة  ، أنت يا من تسمع دوما الجملة الخالدة: «إياك تتفزلك وتعمل نفسك ناصح وفلوطة وتمد ايدك على عيان!!» أحيانا تحس بأنك شبح ، يمر أمامك رئيس القسم وكأنك طيف بلا أبعاد فيزيقية أو صفات بيولوجية ، هواء بلا صفير ، هى منطقة ممسوحة فى ذاكرتك ، لم يبق منها فى ذاكرتى إلا العشرية المرعبة، عشرة أيام امتياز فى قسم الحروق ،نوبتجية المساء، من الثامنة مساء حتى الثامنة صباحا، وحدك فى عنبر الحروق الذى كان يستقبل فى مستشفى قصر العينى الحالات الحرجة جدا ،والتى ترفضها المستشفيات الأخرى ، ليس لنقص الإمكانات فقط ، ولكن لتقليل نسبة الوفيات فى دفاترها ، كنا نستقبل نسب الحروق المرتفعة التى لا يسمع عنها زملاؤنا الآخرون فى مستشفيات وزارة الصحة الخمسين والستين فى المائة وما يزيد ! كنا فى قسم الحروق نعيش مسرحية عبثية من مسرحيات بيكيت أو يونيسكو،  كأننا داخل لوحة سريالية من لوحات سلفادور دالى ، تأتى إلينا كل النماذج ، من احترق فى حادث سيارة أو ترك مدفأة التصقت بالستائر أو تعرض لانفجار أنبوبة غاز ... الخ، لكن ماكان يدهشنى هو عدد البنات الصغيرات اللاتى كن ضيفات دائمات على قسم الحروق ، النموذج الخالد المتكرر، العروسة التى صبت الجاز على جسدها وتلته بعود الكبريت المشتعل رفضا للعريس، وهذه كانت تمثل نسبة كبيرة  ، ظلت محيرة بالنسبة لى حتى هذه اللحظة ، لماذا استخدام تلك الطريقة الشنيعة والبشعة لاعلان رفضها أو اقدامها على الانتحار ، وكيف تواتيها الجرأة؟!،  أعمل أنا وزملائى بمنتهى الجدية فى تعليق المحاليل التى نعرف حتما أنها تتبخر وكأنك تملأ شوالا مثقوبا بالمياه، تتبخر سدى نتيجة غياب غطاء الجلد الذى من مهامه أن يحافظ على توازن السوائل والمعادن وينظم درجات الحرارة ويعمل كحائط صد وجهاز مناعة ، ننظف الصديد المتراكم فى قيح الجروح ، نحسب نسبة الحرق بمعادلات والاس أو ما علموه لنا بأنه قانون التسعات ، كل ذراع ٩٪ والظهر ١٨٪ وكل ساق ١٨٪ ... إلخ ، نكتب نسبة الحرق بمنتهى الدقة ، ندور فى تلك الساقية الجهنمية عدة أيام بمنتهى الهمة والحماس ، لتنتهى بشهادة الوفاة الحتمية ، لم يفلت مريض محروق من قبضة عزرائيل فى تلك العشرية الكابوسية المرعبة ،  سباق ماراثون بيننا وبين الموت كنا نخسره دائما ، ونسلم عصا السباق فى نهايته إلى سمسار الأرواح التائهة.

كان ينتظرنا بعد عنبر الحروق عنبر «القدم السكري» الذى كان فى هذا الزمن، الثمانينيات ، عنبر رعب من نوع مختلف ، كان لا ينتهى مثل عنبر الحروق بالوفاة ، ولكنه ينتهى غالبا بالبتر ، خاصة أنه لم تكن فى تلك الأيام قد تقدمت جراحات الأوعية الدموية والدعامات مثل الآن ، فقد كان الحل الوحيد أو المتاح والآمن قبل أن تغزو الغرغرينا والتسمم كل الجسم . أن تبتر الأصابع أو القدم أو الساق ، لم أفهم كيف نعتبر البتر علاجا؟!   لم أكن مقتنعا بأن يوضع بتر قدم أو ساق مريض  فى خانة العلاج، كنت أفكر فى الأمر بشكل فلسفى ، أتساءل عن جودة الحياة وليست مجرد الحياة ، لم تكن الأطراف الصناعية قد تطورت  ، فكانت الحصيلة مرضى ينتظرون فرمان البتر بقناعة استكمال العيشة ، كانوا فقراء الجيب والفطنة كما يقول صلاح عبدالصبور ، أذكر منهم مريضا مازال عالقا فى ذاكرتى، أتى إلى قسم «القدم السكري» بعد أن تفاقمت حالته من علاجه بالعسل الجبلى على قروح القدم ،ظل يجادلنى وهو على أبواب غرفة العمليات أنه قد وضع العسل لأن فيه شفاء للناس من جميع الأمراض! ، كان   الطرف الشبحى أكثر ما يؤلمني ، عندما يستيقظ هذا المريض الغلبان بألم متوهما أن ساقه المبتورة مازالت موجودة وفيها ألم ، يشير إلى ساقه ، وكأن شبكية عينه أصبحت لا ترى إلا وهما مجسدا، كانت تداهمنى وتطاردنى وتتحدانى أكبر علامة استفهام؟ ماهى الحياة؟ ما هو معناها؟  هل لها معيار ودرجة جودة؟ ما هو الحد الفاصل بين الحياة والموت؟ وهل من يصارع المرض فى درجاته القصوى والقاسية يستحق صفة الحى؟!.  
نقلا عن الأهرام