كمال زاخر
الإثنين 19 يونيو 2023
يحتل هذا الجزء ما يربو على الخمسمائة صفحة، من القطع الكبير، ويتعرض لقضايا هى العمود الفقرى للمسيحية، بداية من ماهية المسيح والثالوث وانتهاء بأمور آخر الزمان، وبينهما يعرض الكاتب قضايا ومفاهيم: "الخلاص والفداء"، "الإيمان والتبرير والتقديس"، "الأسرار"، "الكنيسة"، "الحياة المسيحية والأخلاق"، كما طرحها القديس بولس الرسول، أو بحسب وصف الكاتب "فى لاهوت بولس الرسول"، وغير خاف على القارئ أن مصطلح "فى لاهوت بولس" تعنى "فى ما استقر عند القديس بولس من مفاهيم لاهوتية.
وبطبيعة الحال لسنا بصدد تحليل وفحص هذه القضايا، بقدر عرضها فى ايجاز لا يخل بما ذهب إليه الكاتب، ولا يضيف إليه ما لم يقله، وهى مهمة دقيقة وشاقة وربما مجهدة، تحاول ألا تقع فى شباك الانحيازات الذاتية، أو أن تكتب وعينها على المتربصين، والفرقاء، الذين استغرقتهم صراعاتهم.
يذهب الكاتب إلى أن القديس بولس كانت مهمته الرئيسية هى البشارة بالمسيح، كتكليف مباشر من الرب يسوع المسيح، "لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُرْسِلْنِي لأُعَمِّدَ بَلْ لأُبَشِّرَ" (1كو 17:1)، ومن ثم جاءت كتابات القديس بولس ورسائله لتدعم هذه المهمة ولم يقصد منها أن تقدم منهجاً لاهوتياً يمكن احتسابه نظرية لاهوتية، وفى هذا يقول الكاتب "فمدخل اللاهوت عند بولس لا يتبع أى منهج بأى مستوى، بل هو المسيح والمسيح نفسه الذى يتوهج نوره فى فكر بولس وروحه فيأخذه نموذجاً لكل شئ، ومن هنا يأتى لاهوت بولس الرسول. فلاهوت بولس الرسول ليس تعليم المسيح ولا تقييم المسيح ولا تقييم أعمال المسيح، بل المسيح نفسه منظوراً فى حياته وأعماله. فأعظم ما عرفه بولس عن المسيح وكل ما حصل عليه من المسيح وكل ما استعلنه بالروح هو شئ واحد : أن المسيح أحبه، ثم مات من أجله (أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي ـ غلاطية 20:2).
ويوجز الكاتب هذا المفهوم فى قول القديس بولس "وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ الْمَسِيحِ." (1كو16:2)، والذى ترجمه فى حياته "فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ" (غلاطية 20:2).
ويستطرد الكاتب مؤكداً "هذا هو لاهوت بولس الرسول، وهذا هو منهجه إن صح هذا التعبير: المسيح بشخصه الحي القائم من الأموات، منظوراً فى حياته السابقة على تجسده، وفى تجسده، وفى موته وقيامته وارتفاعه وجلوسه عن يمين الآب فى السموات" المسيح هو الكل فى الكل "وكأن لسان حال لاهوت بولس الرسول هو (أعطنى المسيح) وأنا سأكون أعظم لاهوتى فى العالم، والعكس يكون صحيحاً: إن كنت أعظم لاهوتى فى العالم وأنا لا أحوز شخص المسيح فى حياتى، فأنا لست من اللاهوت فى شئ، وسأعثر فى بولس وفى المسيح والله وكل الناس."
وينتهى الكاتب إلى أن "المدخل الوحيد للاهوت بولس الرسول "ليحل المسيح بالإيمان فى قلوبكم" والمسيح عندما يحل فى قلب إنسان أحبه وآمن به، يحل بلاهوته (لاهوت المسيح وليس لاهوت بولس الرسول)، بمعنى يحل بكل غنى مجده، يحل بوجوده السابق على التجسد، يحل بتجسده، يحل بكل تعليمه، يحل بآلامه، يحل بصليبه، يحل بموته، يحل بقيامته، يحل بارتفاعه وجلوسه عن يمين الآب، يحل بشفاعته الدائمة لدى الآب، يحل بنعمته وروحه القدوس"
"ولكن أول ما يعلنه المسيح لمن أحبه هو كيف مات من أجله !، لأن أعظم وأجلّ عمل قام به الآب من أجل العالم ـ وتممه المسيح ـ هو بذل ابنه لكى لا يهلك كل من يؤمن به. الفدية التى قدمها المسيح بموته هى أعظم هبة وهبها الله للإنسان، لأن بموت المسيح أنفذنا من لعنة الخطية والموت ونلنا حياة جديدة. وموت المسيح باعتباره أعظم هبة وهبها الله للإنسان، فإن هذه الهبة تحمل بالضرورة كل الهبات الأخرى والعطايا وكل شئ: (اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟) (رومية 33:8)، ويلاحظ القارئ هنا كلمة (معه)."
اللافت فى هذا الجزء من الكتاب أنه يعرض بتدقيق عديد من الإشكاليات اللاهوتية بداية من ماهية المسيح، والثالوث، وقضية الفداء والخلاص، المسيرة والنتائج، ويناقش الجذور اللاهوتية للأسرار عند القديس بولس ، خاصة المعمودية والافخارستيا والزيجة، وعندما يعرض لماهية الكنيسة يوضح المفهوم الروحى لها، ولا يغفل رؤية القديس بولس للإدارة الكنسية، وأبعاد التدبير الكنسى، ولا يحلق الكاتب فى سماء التنظير بل يقتحم واقعنا فيحلل منظومة الحياة المسيحية والأخلاق برأى القديس بولس، ويناقش أخلاق المسيحى تجاه الآخرين بل ومحاور الأخلاق الشخصية للفرد المسيحى.
ويتناول الكاتب النظريات المختلفة التى تناولت "سر الفداء"، نظرية الفدية بدفع الثمن، نظرية التكفير بالإحلال (عقوبة بدل عقوبة)، نظرية استرضاء الله، ويبين ضعف هذه النظريات الثلاث، ثم يطرح ما يكشفه القديس بولس فيما يسمى "الفداء الشمولى".
ويذهب بنا الكاتب الى النتائج التى ترتبت على الفداء وفى مقدمتها "المصالحة"، وإبطال عوائق المصالحة.
ويفرد الكاتب فصلاً خاصاً لأمور آخر الزان (الاسخاتولوجيا) عند القديس بولس؛ بداية من تعريفها، والموت وما بعد الموت، ومجئ المسيح والظروف الملازمة له، وظهور ضد المسيح، ثم الدهر الذى يتبع مجئ المسيح.
هو جزء يحرض على التفكير وإعمال العقل، وانتعاش الروح، ورحلتنا معه ممتدة وتعزيتنا منه ليست بقليلة.