عيد أسطفانوس
قبل أن أسترسل في متن هذا الطرح، أود التنويه بأن احترام عقائد الناس - كل عقائد الناس - وطقوسهم ورموزهم هو الخط الفكري والثقافي والديني الذي اعتمدته منذ بداية كتاباتي التي تتناول الشأن العام. وسأبقى ملتزمًا بهذا المبدأ ولن أحيد عنه ما حييت.
 
في أوائل السبعينات، كانت رحلتي الشهرية المقررة ذهابًا وعودة بين عملي في أقصى جنوب الوادي ومقر إقامتي في القاهرة لقضاء الإجازة، طولها قرابة الألف كيلومتر. كنت أقطع تلك الرحلة في قطار يغادر في الفجر ليصل في المساء. كان القطار نظيفًا، وكنت أحرص على الجلوس في مقعد بجوار النافذة لأستمتع بمنظر الشروق الساحر بينما يشق القطار طريقه بجانب مجرى النهر. كان المنظر مؤنسًا وجميلاً، غنياً بمظاهر الطبيعة الخضراء والأشجار وكروم النخيل والمياه الصافية تجري في الترع والجداول. كما كان منظر الفلاحين البسطاء، يتزاحمون لعبور المزلقان، متجهين من قراهم إلى حقولهم مع شروق الشمس، مصطحبين قطعان ماشيتهم ودوابهم يبعث على الأمل في التفاؤل. لقد كانوا يخرجون مبكرًا بنشاط وحيوية لكسب رزقهم، وما إن تسطع الشمس حتى يكتمل المشهد الرائع: ثمة من يزرع ومن يحصد ومن يسقي ومن يحرث، ومن المؤكد أن كل هؤلاء خرجوا من بيوتهم ساعين الى أرزاقهم مبكرين دون تكاسل أو اعتماد على مقولات فاسدة تدعو لانتظار الأرزاق حتى تدق الأبواب. هم لم ينتظروا ارزاقهم، بل خرجوا مبكرًا بعزيمة واجتهاد جاد. ومن ثم، يأتي الحصاد، وهذا هو القانون الإلهي الصارم الذي قامت على أساسه عمارة الأرض منذ بداية الخليقة.
 
تغيرت الأحوال ولم أعد أستمتع بهذه الرحلة المبهجة، ومضى نصف قرن تقريبًا على آخر مرة قمت فيها بهذه الرحلة، ولظروف قهرية اضطررت للقيام بها مجددًا، متطلعًا إلى استعادة ذكريات البهجة القديمة. في الموعد السابق، في الخامسة فجرًا، بعد أن أطلقت صفارات الوداع المعتادة، غادر القطار منصة المحطة، وكما كانت العادة، بدأتُ أتأمل المناظر من النافذة. مرت حوالى ساعة، وكان الجو صافيًا، ولكن لم ألحظ أي حركة بشرية. ثم تنبهت لمشهد مستجد، حيث زحفت علب الخرسانة لتطغى على الشريط الأخضر الذي كان موازياً لخط القطار، وتلاشت الفواصل الطويلة بين القرى وأصبحت المباني متلاصقة على جانبي سكة الحديد، ولم يعد هناك حرم للسكة كما كان في السابق، وأصبح مجرى الترعة الموازية لمسار القطار مستنقعًا مغطى بطبقة سميكة من الأسنة تبرز منها أطراف دواب نافقة، وعلى جانبيه أكوام من القمامة الكثيفة. كان المنظر الأسوأ وجود آلات الري المتنقلة تستخلص المياه من الترعة لسقي بعض المزروعات القليلة، الكالحة والمتناثرة هنا وهناك. غفوت قليلاً ثم استفقت، وكانت الشمس في كبد السماء، وكان القطار متوقفًا في إحدى المحطات، ثم بدأ في التحرك بخجل. بدا وكأن رجل مسن شبه نائم يجلس على ظهر حمار ويجر خلفه بقرة عجوز هزيلة. نظرت إلى ساعتي ووجدت أن الساعة العاشرة، وتلاشى أملي في رؤية أي مناظر من رحلتي القديمة.
 
في المقعد الخلفي، دار حوار حاد بين راكبين كنت قد استطلعت مظهرهما عند ركوبي القطار. كانا ملتحين، وكان أحدهما يرتدي جلبابًا قصيرًا ويرددان أدعية بصوت مسموع، فهمت أنها أدعية خاصة بالسفر. بدأ الحديث بينهما حول أسباب الأزمة التي يعانيها المجتمع، وذكروا منها موجة الغلاء الفاحش وانهيار قيمة العملة والنصب والاحتيال والأوبئة والكوارث، وعدد من الأمور الأخرى. انتهى الراكبان بالاتفاق على أن السبب الأول والوحيد لكل المصائب التي يعاني منها المجتمع هو البعد عن الدين، ولم ينسوا الثناء على جمعة الصلاة على النبي وكيف هزت مكبرات الصوت أرجاء المدينة، متمنين تكرارها واعتبار كل جمعة هي جمعة الصلاة على النبي، عسى أن تتحسن أحوال المجتمع.
 
بدى أن الرأي الذي توصل إليه الراكبان هو أن السبب في كل ما نعانيه هو البعد عن الدين، وأن الصلاة على النبي ربما تغير الأحوال. هذا الرأي لفت انتباه راكب في المقعد المجاور، حيث تداخل في الحوار وسأل بصوت مسموع: "ما المقصود بالبعد عن الدين؟ وما هو المعيار الذي يحدد تلك المسافة؟" ثم استمر بتعجب وسأل بشكل متحمس: "هل تنتج الصلاة على النبي في مكبرات الصوت قمحًا أو دواءً أو غذاءً؟" سادت لحظة صمت ثم قام أحد الرجلين من مقعده وعلامات الانفعال الشديدة تسيطر على ملامح وجهه، وهو الذي يرتدي الجلباب القصير، ووجه السؤال مباشرة للرجل قائلاً: "هل أنت مسلم؟" فأجاب الرجل بصوت عالٍ: "نعم، أنا مسلم وموحد بالله"، ثم تلا الشهادة وكررها كمن ينفي عن نفسه من تهمة. هدأ انفعال الرجلين قليلاً وبدأ أحدهما بالحديث بصوت حاد، متجاهلاً الجزء الأول من السؤال، وبدأ في سرد الأحاديث التي تبين أفضال الصلاة على النبي (على الأمة). ولكن الرجل أصر على السؤال وتكراره بصوت حاد، مؤكدًا على مخارج الحروف: "هل تنتج الصلاة على النبي قمحًا؟" حاول الرجلان بشدة تفادي الإجابة المباشرة على السؤال والمراوغة، وبعد أن حمى وطيس النقاشات، اشرأبت الأعناق فوق مساند الكراسي، في انتظار الإجابة. الرجل مصر على سؤاله، والرجلان مستمران في سرد أحاديث لا تمت للإجابة على السؤال بصلة. هممت للانضمام إلى المناقشة وإبداء رأيي، لكنني تراجعت خوفًا من ردة الفعل إذا سألني أحدهم: "هل أنت مسلم؟"، وبالطبع سأجيب بالنفي، وربما يحدث ما لا يحمد عقباه، أو على الأقل سيتم إقصائي من المشاركة في النقاش باعتبار أن (شهادتي المجروحة).
 

توسعت المناقشة وحمى وطيسها، وشملت تقريباً جميع ركاب العربة، وحتى المارة بين العربات توقفوا لمتابعة الحوار. بعضهم، وعلى الرغم من كونهم قلة، دعموا بخجل صاحب السؤال بخجل، وبعضهم الآخر شجب السائل واحتد عليه، فيما آثر بقية الركاب التزام الحياد. وأظن أن الرحلة ستنتهي قبل الحصول على إجابة على السؤال، وسيبقى السؤال معلقًا، ليس لأنه لا يوجد إجابة عليه، بل لأن الإجابة المقنعة معروفة للجميع، ولكنهم لا يرغبون بسماعها. فهي إجابة صادمة بكل المقاييس. لا يمكن لشعيرة أو طقس أو فرض في عقيدة - أي عقيدة - أن تنتج أو تصنع أو تزرع، فالعقائد للأرواح، تناجي بها خالقها وتتعبد إليه، عسى أن يمنحها مكانًا في ملكوته. أما العمل والإنتاج والإبداع، فتلك مهمة العقول والأجساد، التي تتناسل وتبدع وتنتج لإعمار الأرض بالجهد والعمل والاجتهاد والصبر، وأعمال العقل، وما عدا ذلك فهو وسيلة للارتكان والتواكل والبعد عن الاسباب. أما تحميل العقائد نتاج الجهد البشري، فهو ظلم للعقائد وتحميلها ما لا تحتمل. فلا قمح يحصد من دون اختيار البذرة الصالحة وتحضير الأرض مناسبة لها وغرسها في موعد محدد وسقيها في موعد محدد. فإذا اختلف عن ذلك، سيموت الناس جوعى حتى وإن كانوا مؤمنين. 

نقلا عن إيلاف