محمد أبو الغار
وجدت صعوبة كبيرة منذ رحيل جورج إسحق فى أن أكتب عنه. هناك أناس يتركون بصمات فى كل مكان ولهم تأثير كبير على الأصدقاء وعلى مَن يعرفهم ومَن لا يعرفهم شخصيًّا. مَن منّا فى مصر لم يعرف جورج إسحاق، إذا كنت لم تعرفه شخصيًّا، فقد سمعته يتكلم أو شاهدت صورته فى الصحف الورقية أو رأيته يتحدث فى التليفزيون. لقد عرفت جورج فى عام 2004 حين تأسست حركة «كفاية»، وذهبت منذ اليوم الأول للاجتماع الأول، وقابلنى جورج إسحاق بالترحاب بابتسامته الرائعة، وسألت عن رسم الاشتراك، وكانت الإجابة مافيش رسم اشتراك، اللى عاوز يتبرع بحاجة يعمل يفط أو يطبع ورق عليه اسم كفاية. وفى الاجتماع الأول وجدت جميع الاتجاهات السياسية موجودة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فكيف استطاع جورج أن يسير بهذه السفينة المضطربة فى ظروف صعبة وبدون تنظيم حقيقى وإنما تنظيم فضفاض جمع الشامى على المغربى، ولكن وجود جورج استطاع أن يلطف الأجواء. وأذكر مرات كثيرة مشينا سويًا فى تظاهرات نهتف «لا للتوريث لا للتمديد»، وكانت أفكاره فيها طرافة وتجديد، فحين حاصرت الشرطة معظم الأماكن التى كانت تظاهرات كفاية تحدث فيها، وكانت أعداد المتظاهرين عادةً تتراوح بين عشرات وأحيانًا مئات، فكر جورج فى عمل وقفة مسائية بالشموع أمام ضريح سعد زغلول، وكانت وقفة ناجحة جدًّا، وحضرها المئات. تظاهرات كفاية لم تكن بها شتائم ولا ألفاظ خارجة، وكان مطلبها واضحًا.
سافرت مع جورج ود. عبدالجليل مصطفى ود. أسامة الغزالى ود. مديحة دوس إلى نجع حمادى لزيارة أهالى الشهداء من الأقباط الذين قتلهم البلطجى الشهير، وكان السفر بالطائرة إلى الأقصر، ثم حجزنا أتوبيسًا صغيرًا ليقلنا إلى نجع حمادى، وكان فى هذا الوقت الإرهاب على أشده، ولذا كانت هناك نقاط شرطة كل بضعة كيلومترات لتفتيش السيارات والتأكد من شخصيات الركاب. وقبل أن نصل إلى نجع حمادى، علمنا من جورج أن مجموعة من الشباب سافروا إلى نجع حمادى بالقطار لمساندته، وقامت الشرطة بالقبض عليهم فى محطة القطار، ونقلهم إلى مقر أمن الدولة فى قنا. وكان فى انتظارنا مدير الأمن، وتحدثنا معه عن الإفراج عن الشباب الذى لم يفعل شيئًا، وفشلت المفاوضات، وقابلنا الأنبا كيرلس، أسقف نجع حمادى، لتعزيته، وزرنا عائلات جميع الشهداء، وكان يصحبنا بأوامر مدير الأمن مجموعة من كبار ضباط الشرطة، الذين كانوا غير متفهمين لغرض الزيارة، التى لم تكن ضد التوريث، وإنما ضد الإرهاب والفتنة الطائفية وقتل الأبرياء من الأقباط بدون ذنب اقترفوه.
الأيام التى قضيناها معًا فى أماكن مختلفة وفى اجتماعات فضفاضة كانت أيامًا كلها أمل فى مستقبل أفضل للوطن، وكان الشىء الوحيد الذى قامت به كفاية هو المظاهرات الصغيرة وتوزيع أوراق وشعارات كفاية، وكان جورج هو الدينامو وراء كل ذلك، وعمومًا علاقة كفاية مع الشرطة لم تكن سيئة، فالأعداد لم تكن كبيرة، والكثيرون منهم شخصيات معروفة ومحترمة، وكلهم مسالمون، ووجه جورج البشوش وعلاقته الطيبة مع الشرطة كانت تمنع العنف وتطمئن الشرطة.
ويوم حضر البرادعى عام 2010 من النمسا ذهب الكثيرون لاستقباله فى المطار، وعلى رأسهم جورج إسحاق الذى وقف أمام باب خروج صالة الوصول، وعندما فتح الباب وظهر البرادعى دخل جورج إلى الصالة، ودفعه البوليس إلى الخارج، ثم أعلنت الشرطة أن البرادعى حاصل على قلادة النيل، ولذا سوف يخرج من باب كبار الزوار، وبعد فترة ظهرت سيارة البرادعى، ولمحه البعض، ولم يلمحه الكثيرون، وأعلن جورج غضبه بصوت عالً قائلًا: إذا كان البرادعى يريد أن يكون زعيمًا فكان عليه أن يوقف السيارة وينزل لتحية مَن كانوا فى انتظاره لفترة طويلة.
جورج له تاريخ سياسى قديم، فقد اشترك فى حزب العمل عام 1969، وكانت له علاقات وثيقة مع حزب التجمع، وكان يُبدى رأيه بشجاعة طوال الوقت. وقد رشح نفسه فى مجلس النواب فى دائرة بورسعيد، مسقط رأسه، ولكنه لم يُوفق أمام مرشح الإخوان المسلمين بالرغم من حصوله على عدد كبير من الأصوات.
فى 25 يناير، كان جورج واضحًا مع الثوار ومع مصر وأمنها وأمانها، كان الشباب فى الميدان يعشقونه لأنه كان واضحًا، وما فى قلبه على لسانه، وليس له أغراض ولا مطالب شخصية ولا يبغى سلطة، وإنما يبغى الخير لمصر وأبنائها. عندما تشكلت الأحزاب المختلفة على عجل بعد الثورة لا أعتقد أن جورج اشترك فى أى منها، بل كان على مسافة واحدة من الجميع يحمل الود والحب لكل مَن يحب مصر. وفى السنوات الأخيرة كان اختيار جورج فى مجلس حقوق الإنسان اختيارًا موفقًا، فهو خير مدافع عن حقوق الإنسان فى مصر.
أعتقد أن جزءًا كبيرًا من نجاح جورج وشعبيته راجع إلى أنه شخصية لها قبول عند الجميع بمجرد أن تراه وتتحدث معه تصل كلماته إلى قلبك، وساعده أنه بدأ حياته مدرسًا بعد أن تخرج فى كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1964، وتعامل مع الطلاب والمدرسين لسنوات طويلة، وهذا أعطاه خبرة فى التعامل مع الشباب. وكان جورج يكتب بصفة شبه منتظمة مقالات فى «المصرى اليوم»، وكلها تخص الحريات والثقافة والمشاركة المجتمعية.
فى السنوات الأخيرة، أُصيب جورج بمرض، دخل بعده المستشفى لفترة، ثم خرج فى حالة معقولة، ولكن لم يعد نشاطه مثل قبل المرض. وأخيرًا أصابته الوعكة الأخيرة، التى أسلم بعدها الروح، وخرجت مصر كلها تودعه فى صلاة الجنازة فى الكاتدرائية بالعباسية، ثم فى العزاء فى كنيسة المرعشلى بالزمالك.
خالص العزاء للسيدة الفاضلة، زوجة جورج، التى تشرفت بمعرفتها ونجليه، وعزائى للعائلة كلها، وطبعًا لكل أصدقاء جورج وتلاميذه ومريديه، وعزاء خالص لصديقه الصدوق، الدكتور محمد غنيم.
قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك.
نقلا عن المصرى اليوم