زاهى حواس
تشهد مصر نهضة في بناء المتاحف، وهذا دليل على أن مصر تصون آثارها التي تعتبرها ملكا للإنسانية كلها. قبل ذلك كان مديرو المتاحف الأوروبية يعلنون أن الآثار الموجودة في بلاد الشرق الأوسط لا تصان عن طريق دولها وينادون بأن متاحف أوروبا هي فقط وحصريا القادرة على حفظ التراث!، بمعنى آخر أننا لسنا أصحاب تلك الحضارة والآثار، ولسنا قادرين على حمايتها. لقد حضرت مناظرة عالمية يشرف عليها طلاب جامعة أكسفورد بإنجلترا، وهذه المناظرة تعتبر من أهم الأنشطة العلمية، وتعقد في أحد الموضوعات المهمة كل ثلاث سنوات، وتشمل المناظرات موضوعات سياسية وثقافية واجتماعية، ولذلك قرروا أن تكون الآثار هي موضوع المناظرة في ذلك العام. وكان هناك على جانب رئيسى مؤسسة جيتى «جيم كونو» ومديرة متحف الفن بفيينا وعدد اثنين رؤساء متاحف أوروبية، وعلى الجانب الآخر تم اختيارى للمناظرة ومعى طالب وشخصية عامة أوروبية وتحدث الجانب الأول، وقالوا إن هذه الدول (يقصدون مصر والعراق وسوريا وغيرها من الدول ذات الحضارات)، لا توجد بها متاحف على مستوى عالمى، وأن أعمال الترميم في هذه الدول لا ترتقى إلى المستوى العالمى، وفى حالة قيام أي ثورات تهان الآثار، بل وأشاروا إلى أن طالبان في أفغانستان خربت تماثيل بوذا، مؤكدين- على حد فكرهم- أن التطرف الإسلامى موجود في هذه الدول، وهذا يعرض الآثار للتدمير، وأضافوا أن متاحفهم في أوروبا وأمريكا تعرض هذه الآثار على أعلى مستوى وتحافظ عليها، ولذلك فهم قادرون على حماية هذا التراث.
وكنت قد أعددت خطابا مكتوبا، ولذلك بدأت القول إننى سوف أتحدث معكم في هذه القضية بقلب مفتوح، وأرد على كل هذه الادعاءات الكاذبة، وقلت أولا أنا لا أطالب بعودة كل الآثار الموجودة في المتاحف الأوروبية والأمريكية إلى دولنا، بل أطالب بأن تعود الآثار المسروقة والموجودة في بدروم هذه المتاحف، وأن تتوقف المتاحف الأجنبية عن تلك التصرفات الاستعمارية، وأقصد أن تكف عن شراء الآثار المسروقة، لأن ذلك يشجع لصوص الآثار على سرقة الآثار. وأن تعود إلى مصر القطع الأثرية التي لها قيمة، وهى رأس نفرتيتى من برلين وحجر رشيد من المتحف البريطانى والقبة السماوية من اللوفر، وهذه القطع تمت سرقتها وخرجت من مصر بطرق غير قانونية. وهناك قطعتان خرجتا من مصر بالطرق القانونية، لكن يجب أن تعودا لأن مكانهما هو مصر، وأضفت أن مصر بدأت في بناء ٢٢ متحفا في كل مكان بالبلاد، وذلك بدءا من عام ٢٠٠٢، وأن مصر يوجد بها أعظم متحفين وهما المتحف المصرى الكبير الذي لا يوجد له مثيل في أي مكان بالعالم، ودفعت مصر ملايين الدولارات لبناء هذا المتحف لتثبت للعالم كله أنها قادرة على صيانة آثارها، وكذلك متحف الحضارة بالفسطاط.
كان هذا ملخص ما قلت ويمكن أن يشاهد هذا الحديث الآن على الإنترنت. وقبل أن أتحدث عن آخر هذه المتاحف العظيمة التي بنيت على أرض مصر، أود أن أشير إلى خبر مهم جدا أسعدنى، وهو أن أحمد عيسى، وزير السياحة والآثار، قد أعلن، في باريس، على هامش افتتاح معرض الملك رمسيس الثانى، أنه خلال الأيام القليلة القادمة سوف يعلن عن موعد افتتاح المتحف المصرى الكبير.
أود هنا أن أتحدث عن متحف آخر وهو متحف عواصم مصر. وقد ذهبت لزيارة العاصمة الإدارية الجديدة وانبهرت بما رأيت بالمدينة التي سوف تحل العديد من المشاكل الموجودة في القاهرة، وقد تحدثت عن هذا الموضوع في ثلاثة مقالات سابقة، لكن هنا أتحدث عن متحف عواصم مصر الذي يعد من أهم المتاحف محليا وعالميا، حيث يبرهن على حرص الدولة المصرية على كتابة تاريخ جديد وإضافة مفاهيم فعّالة في كيفية التعامل مع الماضى لصنع المستقبل، وعلى الصعيد الخارجى فهو المتحف الأول من نوعه الذي يتحدث عن تاريخ العواصم في دولة ما أو أمة بعينها، حيث يسرد لنا أهم العواصم التي مرت بها الحضارة المصرية عبر مراحل التاريخ المتعاقبة، بدءا من أول عاصمة في التاريخ وهى عاصمة إينب- حدج وبعد ذلك منف مرورا بالعواصم طيبة وتل العمارنة، وكذلك الإسكندرية التي بنيت خلال العصر اليونانى، وقد بناها الإسكندر الأكبر وأيضا القاهرة الإسلامية بعواصمها الأربع الفسطاط والعسكر والقاهرة الفاطمية حتى القاهرة الخديوية في العصر الحديث، وقد استمعت إلى شرح كامل عن هذا المتحف العظيم من الأثرى محمد الفضالى، المسؤول عن المتحف.
ومتحف عواصم مصر ما هو إلا نموذج مصغر للحضارة المصرية منذ النشأة إلى الحداثة، فالحضارة المصرية قديما وحديثا ما هي إلا نتيجة للنشاط الروحى والفكرى والمادى للإنسان المصرى، حيث بدأت بتأثر الإنسان المصرى القديم وتأثيره لعناصر البيئة المحلية التي عاش فيها وكيف نجح في التغلب على الصعوبات التي واجهته في البداية منذ نشأة هذه الحضارة وكيف نجح في وضع أسس العمران والتخطيط العمرانى، وكيف تطور بعد ذلك بحضارته المحلية في مجال نظم الحكم والإدارة ومجال المظاهر الاجتماعية والاقتصادية وفى العقيدة وفى الحياة الثقافية والعلمية والفنية والتعليمية وفى مجال علاقاته بالشعوب الأخرى المجاورة نستطيع أن نقول إن مصر بلد ذو حضارة عريقة، إشارة إلى جذورها الممتدة في أعماق التاريخ، وكانت الحضارة المصرية القديمة في كافة عصورها ومراحلها وحدة تاريخية متكاملة، كما أن الأصول الروحية والمادية التي قامت عليها هذه الحضارة ظلت ماثلة في كيان وقلب المجتمع المصرى حتى نهاية الحضارة الإسلامية. أما بالنسبة لمظاهر الحضارة الحديثة فنجد أنها تهتم بالتقدم العلمى والتكنولوجى وتهتم بالنظم وتطويرها ولا تهتم بما هو روحى وقد ينطبق هذا على مظاهر حضارة الغرب.
وقد شرح لنا أثناء زيارتى للمتحف الأثرى محمد الفضالى قصة هذا المتحف العظيم وقال إن متحف عواصم مصر يتناول عرض جوانب الحياة الإدارية والعقائدية في مصر منذ عصر التوحيد وحتى العصر الحديث، وذلك من خلال عرض أبرز العواصم السياسية عبر التاريخ المصرى القديم والحديث: منف- طيبة- تل العمارنة- الإسكندرية- القاهرة التاريخية- القاهرة الخديوية، بالإضافة إلى ماكيت للعاصمة الإدارية الجديدة مع تسليط الضوء على الجوانب الإدارية والتشريعية والأسرة والمجتمع والدين والزراعة والتجارة والصناعة والموسيقى والفنون والحرب والسلم والعلاقات السياسية الدبلوماسية الخارجية، كما يقدم فكرة عن الحياة بعد الموت في المعتقدات المصرية القديمة والإيمان بالبعث بعد الموت والثواب والعقاب.
والمتحف في تكوينه من الحديقة المتحفية وقاعة العواصم وقاعة العالم الآخر وقاعة العملة، إنما هو تجسيد للدولة المصرية منذ نشأة الحضارة على أرض مصر حتى العصر الحديث، من حيث تناول الطبيعة السهلة لمصر الممثلة في انسياب نهر النيل وسط أرضها من الجنوب إلى الشمال، وكيف أن المصرى القديم بدأ حضارته على ضفاف نهر النيل تنقلا من الصحارى ليعرف الزراعة واستئناس الحيوان ويتعرف على معوقات الحضارة المصرية من البيئة المحيطة به التي حوت الأحجار والأخشاب والنباتات والحيوانات والأرض والسماء والهواء والنور والظلام، فكان لكل شىء رمزية عند المصرى القديم مثل نهر النيل الذي يجسد له الشىء ونقيضه سواء في مسار سريانه أو في ضفتيه أو فيضه وغضبه، فكان النيل حياة وأرضه الخصبة الجنة وصحراوات العالم الآخر فنقيضه الموت وفيضانه إعادة البعث.
ويتزين متحف العواصم بمجموعة من الآثار الفريدة التي تم اختيارها من كافة العواصم المصرية عبر التاريخ، بدءا من الجنوب، حيث أسوان منبع الحضارة وحتى الشمال الإسكندرية، مرورا بتلك العواصم القائمة على ضفاف نهر النيل، وقد شكل د. خالد العنانى، وزير السياحة والآثار في ذلك الوقت، لجانا يرأسها الأثرى المتميز، الدكتور مصطفى وزيرى، وشارك أيضا في اختيار القطع الدكتور مؤمن عثمان، رئيس قطاع المتاحف، والدكتور محمود مبروك، وقد تم اختيار القطع الأثرية التي يمكن من خلالها أن تقص علينا حكاية عواصم مصر، خاصة أن هذه القطع سوف تظهر مدى التقدم الذي وصل إليه المصريون في معرفة علوم الهندسة والتطور العمرانى، حيث قاموا بتجسيد البيئة النباتية المحيطة بهم في عمائرهم الدنيوية والجنائزية، وأيضا في الفنون قديما وحديثا ولعل فلسفة إنشاء متحف للعواصم في جمهوريتنا الجديدة إنما هو إشارة لانطلاق عصر جديد نحو مستقبل أفضل لأجيال قادمة تستحق حياة كريمة.
وقد أضاف الأثرى محمد الفضالى أن فكرة إنشاء متحف للعواصم المصرية عبر التاريخ كأحد مكونات أو عناصر مدينة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية الجديدة، وذلك إيمانا بأن بناء الإنسان يقوم على معرفة العلوم والإلمام بالمعارف والثقافة والفنون. فبناء الإنسان يقوم على أساس الحفاظ على الهوية المصرية التي تبرز سمات الشخصية المصرية عبر مراحل التاريخ وتطور الحضارة على أرض مصر، مما استلزم تفرد الشخصية المصرية عبر العصور المختلفة في متحف يضم مجموعة متنوعة من الآثار المصرية لإبراز عدد من الموضوعات التي يتميز بها الإنسان المصرى عن غيره في الحضارات الأخرى.
عملت الدولة، ممثلة في وزارة السياحة والآثار، على تأكيد أهداف المرحلة الراهنة للبلاد من حيث تدعيم وثبات الدولة واستقرارها من خلال إنشاء متحف العواصم المصرية، ليكون شاهدا على استقرار ونهضة مصر. وكذلك دورها في التأكيد على وحدة البلاد السياسية والجغرافية، وكذا مؤسسة الدولة المصرية منذ القدم من خلال إلقاء الضوء على مراحل تطور نظم الحكم والإدارة وإبراز طبيعة الأمة المصرية القائمة على التسامح وقبول الآخر وحب المواطن لأصله، حيث يؤكد متحف عواصم مصر إبراز مجموعة من الرسائل المهمة التي لابد أن يعرفها الآخرون عن مصر منها:
1- ثبات واستقرار الدولة المصرية.
2- ريادة الدولة المصرية في معرفة وتطبيق نظم الحكم والإدارة.
3- مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف.
4- رعاية السلام وتعزيز العلاقات الخارجية.
5- الدين لله والوطن للجميع.
6- الاهتمام بالمرأة وإبراز دورها في المجتمع.
وأخيرا يضيف الأثرى محمد الفضالى أن فكرة المتحف لم تقف عند هذا الحد وحسب، وإنما امتدت للربط بين أصالة الماضى ورغبة الحاضر في صنع مستقبل أفضل، حيث جمع بين مجد الأجداد الواضح، فيما يحويه المتحف من آثار، وعبقرية الأجداد في صنع مستقبل جديد قائم على المعرفة والتكنولوجيا ومواكبة العصر. كما يسهم المتحف في الحفاظ على التراث المصرى بكافة روافده من أساليب الحفظ والصيانة والترميم والعرض.
وهنا أود أن أشيد بالدور الذي قام به الفنان الدكتور محمود مبروك في صياغة العرض المتحفى على أعلى مستوى، من حيث الإضاءة وتسلسل القطع الأثرية والسيناريو الذي يظهر أهم عواصم مصر منذ أول عاصمة في التاريخ للدولة الموحدة، وهى إينب حدج وحتى العاصمة الإدارية الجديدة. وهذا العرض ينافس أهم العروض المتحفية في العالم كله، حيث إن الدكتور محمود مبروك يمتلك الموهبة والحب للتراث المصرى القديم بحيث يضع لمسات سحرية على القطع الأثرية، ويجعل الناظر إليها يدخل في حالة من العشق للآثار المعروضة.
نقلا عن المصرى اليوم