عاطف بشاي
وردت تلك العبارة البليغة فى رواية «خان الخليلى»، التى أبدعها كاتبنا الكبير «نجيب محفوظ» (1945) واصفًا حالة بطل الرواية «أحمد عاكف» العابس المضطرب الذى يسيطر عليه اليأس والقنوط.. لكنه مع ذلك يحاول جاهدًا أن يجد بارقة أمل فى حياة جديدة.. لعل الطالع يتبدل.. ولعل الحظ يتجدد.. ولعل مشاعر خامدة تنفض عن صفحتها غبار الجمود وتبعث فيها الحياة واليقظة من جديد.. إنها لذة الاستطلاع بانتقال البطل من حى دون حيه القديم منزلة وعلمًا.. لكن هذا الانتقال لا يعكس فى الحقيقة إلا مجاهدة شكلية لا تغير كثيرًا من طبيعته الغارقة فى الاكتئاب الراسخ بأعماقه.
ولأن «نجيب محفوظ» يولى اهتمامًا بالغًا ويعنى عناية فائقة بإبراز تفاصيل الشخصية النفسية فى سعيها الحميم للخروج من أزمتها الطاحنة.. وفى محاولتها المضنية فى التكيف مع واقعها المعيش دون جدوى مبحرًا فى ثنايا انفعالاتها العاصفة واضطرابها السلوكى.. وقلقها الوجودى وتناقضاتها المؤلمة وفشلها الدائم فى الهروب من مصيرها المظلم.. يعكس ذلك الصراع الداخلى المضطرب بين تلاحم ذكريات الماضى التعس مع أحداث الحاضر الراكدة ما يسمى الحتمية الاجتماعية فى البناء الدرامى، الذى يبرع «نجيب محفوظ» فى تصويره وحبكه. لقد اضطر «أحمد عاكف» إلى الانقطاع عن الدراسة بعد حصوله على البكالوريا والعمل فى وظيفة صغيرة فى أحد دواوين الحكومة لينفق على أسرته المُحطَّمة، ويربى أخويه الصغيرين، اللذين مات أحدهما، وصار الثانى موظفًا بـ«بنك مصر»، وذلك بعد أن أُحيل والده إلى المعاش، وكان يشارف الأربعين، لإضاعته عهدة مصلحية بإهماله وتطاوله على المحققين الإداريين.
لقد كان «أحمد عاكف» أثناء دراسته طالبًا مُجِدًّا وطُموحًا واسع الآمال.. رغب أول الأمر فى دراسة القانون، وطمع فى أن تنتهى به دراسته إلى مثل ما انتهت بـ«سعد زغلول» نفسه.. وطوحت به الأحلام والأمانى.. فلما أُجبر على الانقطاع عن الدراسة أصابت آماله طعنة دامية.. ترنّح من هولها، واجتاحته ثورة عنيفة جنونية حطمت كيانه، فامتلأت نفسه مرارة وكمدًا، ووقر فى أعماقه أنه شهيد مضطهد.. وعبقرية مقبورة وضحية مظلومة للحظ العاثر.. وأصبح بعد ذلك يرثى لعبقريته الشهيرة، ويحتفل بذكراها بمناسبة وغير مناسبة، ويشكو حظه العاثر، ويُعدد آثامه حتى انقلبت شكواه، فصارت هوسًا مرضيًّا.. ويرصد «نجيب محفوظ» علاقته بزملائه، الذين اعتادوا تأكيد أنه لو أتم تعليمه لكان نجاحه مضمونًا، وأصبح من العظماء الذين يُشار إليهم بالبنان.. أو يقول فى حسرة: «إنى أدنو الآن من الأربعين، فتصوروا لو أن الحياة سارت كما ينبغى أن تسير، وماذا كان يُنتظر من رجل فى مثل جدى واجتهادى فى غضون 20 عامًا.. لقد فاتتنى ظلمًا أخصب فترة فى تاريخ مصر.. تلك الفترة التى تستهين باعتبارات السن والجاه الموروث، ويقفز فيها الشبان إلى كراسى الوزارة». ولم يكن يفوته تتبع خطى المتفوقين، الذين واصلوا دراستهم، وليس نادرًا أن يرفع رأسه عن جريدة بين يديه، ويقول بإنكار: «أتعرفون فلانًا الذى يقولون عنه ويعيدون؟!. لقد زاملنى فى عهد الدراسة فصلًا فصلًا.. وكان تلميذًا خاملًا لا يطمع فى أن يدركنى يومًا ما».
وهكذا تلوثت عواطفه بتمرد ثائر وسخط خبيث وكبرياء حانق واعتداد كاذب بمواهبه، مما جعل حياته عذابًا متصلًا وشقاء مقيمًا.. لقد وجدت هذه العبقرية المزعومة نفسها مهملة فى الدرجة الثامنة بمحفوظات وزارة الأشغال.
إنه مرض «البارانويا» بشقيه «الاضطهاد» و«العظمة»، ممتزجين سببًا ونتيجة.. فقد تحول الإحساس الطاغى بالاضطهاد، سواء كان اضطهاد أشخاص أو زمن أو حظ أو أقدار إلى بارانويا الإحساس بالعبقرية وما يصاحبها من هلاوس من التعالى والغطرسة والغرور.
وقد برع نجيب محفوظ ببحثه فى أغوار النفس الإنسانية الملغزة وتناقضاتها الرهيبة فى أن يخلق نموذجًا بشريًّا يثير التأمل ويشعل الصراع الدرامى بنوعيه الداخلى والخارجى ليصنع رواية بديعة من رواياته العميقة برموزها ودلالاتها المبهرة.
نقلا عن المصرى اليوم