أحمد الجمال
التذكر نوع من خرق المكان والزمان، يتمم خرقهما فى الحاضر وفى المستقبل، وقد خرقت المكان والزمان مرتدًا بذاكرتى إلى أكثر من ثلاثين سنة مضت، وإلى الحانة التى كان يأوى ليلها الممتع عشرات من كل أنواع ودرجات وأصناف وأشكال المثقفين والأدباء والفنانين، وكذلك العاطلون عن الموهبة وعن العمل، وأيضًا بعض المفتونين بذلك الجمع من خارج تلك التشكيلة، وكان أحدهم صاحب حرفة حرة تدر دخلًا عاليًا، يأتى كل ليلة ليشرب ويشتهى نساء التشكيلة بعينيه وأذنيه وفقط.
كنت أحاول ترتيب الأرفف للتخفف من بعض ما أظن أننى قرأته، وأن الأولى به جهات أخرى، تعودت أن أرسل إليها كتبًا فائضة، وفى أقل من لحظة تركت ما أنا فيه واستلقيت على طرف الكنبة أتصفح ما فى يدى، وفى الصفحة الأولى ما بعد الغلاف، قرأت ما هو مكتوب بخط اليد: «إلى الصديق العزيز الأستاذ أحمد الجمال من كاتب نميمة إلى عاشق النمائم ففيها أسرار العصر.. حبى» ثم التوقيع «سليمان فياض»!.
وانتقلت بكليتى إلى ذلك المكان وذاك الزمن، أجالس عم سليمان أو «سُلُم» إذا رفعت الصحبة الحواجز، أتأمل خطوط الزمن العميقة الكثيفة على جلد وجهه، وإحدى عينيه شبه مقفلة، والساق على الساق فى معظم الأحيان، وانحناءة خفيفة للأمام وهو يتكلم وينفث دخان سجائره ويرشف رغوة الجعة باستمتاع ملحوظ، وعلى الطاولة نفسها الممتدة لدرجة أننا سميناها «التروماى».
يزداد العدد لتكتمل التشكيلة الرائعة: سيد خميس الأزهرى الذى فسد، وابن عمدة برقاش الذى غوته الشيوعية فانضم لتنظيماتها، وأنفق ميراثه على أنشطتها وعلى الرفاق، ويفخر بأنه من جند فلان الشاعر وفلان التشكيلى وفلان الأديب.. ورؤوف عياد رسام الكاريكاتير الموهوب الذى لم يتم تعليمه الجامعى، وعاش مأساة عدم التمكن من الحصول على جنسية مصر، لأنه ولد فى السودان لأسرة قبطية مصرية عاشت هناك.
ومازال أقاربه منها يزورونه فى مصر.. وفوزى الهوارى سكرتير ومدير تحرير المجلات.. ومحمد رفاعى الكاتب والناقد الفنى والأدبى.. وجودة خليفة الفنان التشكيلى الموهوب والمظلوم صاحب الضحكة الطلقة الرنانة المدوية، والمشاء الذى ينتعل الصندل ويمضى به قادمًا من آخر مدينة نصر إلى وسط القاهرة.. وسيد حجاب.. وما أدراك ما سيد حجاب!.. الشاعر المثقف الموهوب عذب الحديث، وفيما بعد كاتب ديباجة الدستور.
ومحمد حمام الفنان حنون الصوت رقيق المشاعر ابن النوبة.. وأحمد فؤاد المخرج.. وعلى سالم الكاتب المسرحى الذى خرج من التشكيلة بعد زيارته لإسرائيل.. ووجيه وهبة الفنان التشكيلى والمثقف، الكاتب متعدد المواهب.. وعلى الحجار الفنان المثقف الأصيل.. وحسين عبدالجواد أقوى أصحاب القفشات.. وعبدالحى أديب أو «بيبو» الضاحك الحكاء ومعه حاشيته التى تضم مَن منحهم ألقابًا مثل «قلب الأسد» و«الجنرال» وآخرين.
وماجدة الخطيب، وأروى وجيداء بلبع وسوسن درويش وبهيج إسماعيل وسيد عواد ونعيم صبرى.. وعديدون آخرون أؤجل وصفهم لأعود لـ«سليمان فياض» وكتاب «النميمة»، الجزء الأول، وعنوانه «نبلاء وأوباش».. حيث ظننت لأول وهلة أن «أوباش» كلمة عامية، ربما موروثة من اللغة المصرية القديمة، غير أننى راجعت المعجم من فورى، فوجدت أنها فصيحة وهى جمع «وبش».
وهو من الأوباش؛ أى من «سفلة الناس وأخلاطهم».. و«باش الرجل»؛ أى صحب الغوغاء، و«باش القوم»؛ أى كثروا واختلطوا وضجوا وصاحوا!.. ومن معانيها ذلك المعنى الذى نعرفه جميعًا حيث «بوّش الخبز فى المرق، أى بلّه فيه وفتته».
وكلما مضيت فى صفحات الكتاب الواقع فى 176 صفحة من القطع الصغير، استعدت ما فيه ويشتد بى العجب من قدرة سليمان على وصف الشخصيات النبيلة والأخرى التى من الأوباش، وكأنه يرسمها بريشة متمكنة عالمة بمكامن ما وراء الملامح الخلقية.
وظللت أضحك وأكلم سطور اللوحة التى رسمها بحروفه عن ذلك الذى أعرفه، وكلما التقيته حتى الآن أتفنن فى وخزه، غير أن جلده الأسمك من التمساح وفرس النهر يمتص الوخز، وأحيانا يكسر المخراز.. فى تلك اللوحة وعنوانها «التمرجى» يبدأ «سُلُم» مقدمةً كتبَ فيها: «فى حياتنا المصرية الثقافية كتبة تعلموا تعليمًا متوسطًا.. بعضهم موهوب وصار كاتبًا عصاميًا قديرًا ثقّف نفسه بنفسه.
وأكثرهم غير موهوب ووقف به تعليمه المبتور وانعدام موهبته دون أعتاب الثقافة والقدرة على الكتابة، ومع ذلك صاروا كتبة يحسبون بين الكتاب.. ولكثرتهم وإلحاحهم وتعاونهم السرى صاروا خدناء وقهروا مبدأ الطبيعة والاجتماع الأقوى: البقاء للأصلح والأقوى والأجود.. فزاحموا كأعشاب المزارع فى الساحة الثقافية وصاروا بالإعلام والزن وابتذال النفس وضعف الكرامة مشهورين بين قراء متوسطى الحال مثلهم، داخل الوطن وخارجه.. والتمرجى واحد منهم».
ثم يدخل سليمان فياض فى الموضوع لتتحول اللوحة- إذا شاء مطالعها أو رائيها- إلى غرفة عمليات، فيها يد بارعة تسلخ بالمشرط جلدًا بشريًا دون إراقة قطرة دم.. وربما يكون للحديث صلة.
نقلا عن المصرى اليوم