الأنبا إرميا
حدثتنا المقالة السابقة عن نياحة «البابا يوحنا السادس» ونبوءته بخلو الكرسى المَرقسى زمانًا طويلاً من بعده، وأشارت إلى «أبى الفتوح» المقرب من «الملك الكامل»، والقس «داود بن لُقلُق» المقيم لدى «أبى الفتوح»، الذى حاول بماله أن يقام مِطرانًا للحبشة لكن رفض «البابا يوحنا السادس» حال دون ذلك. وبعد نياحة «البابا يوحنا السادس»، بدأت محاولات «أبى الفتوح» فى مساعدة «القَس داود» ليصير بطريركًا، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى رأى واحد فى ذلك الشأن.
ولم تتوقف محاولات «أبى الفتوح» عن السعى لرسامة «القَس داود» بطريركًا؛ فأرسل إلى الآباء الأساقفة فحضر إليه منهم سبعة، حيث يذكر لنا «أنبا ساويرس ابن المقفع»: «وطلب (أبو الفتوح) منهم أن يكتُبوا خطوطهم فى مسطور عمِله له (عمِله للقس داود) بأنه يصلح بطركًا».
وكان منهم أسقف «دميرة والبرمون» وأسقف «البنوان» بمركز ميت غمر اللذان كانا قد حصَلا على مال من «القَس داود»؛ فمثل هذا الأسقفان بين يدى «الملك الكامل» وطلبا أن يأذن برسامة «القَس داود» بطريركًا، مؤكدين له أن الأساقفة والشعب يُقران بصلاحية «القَس داود» لأن يصير رئيسًا للكنيسة القبطية. لكن «الملك الكامل» تذكر أمر الراهب حبيس «أبيار» وأمر أن يصير هو البطريرك.
وكتب إلى كل من «شمس الدين» ووالى الغربية أن ينزلا بهذا الحبيس من صومعته ويحضراه إلى القاهرة. فلما علِم «أبو الفتوح» بأمر حبيس «أبيار»، اتفق هو والأمير «فخر الدين عثمان» وزير «الملك الكامل» على إبلاغه ـ كذبًا ـ بأن الراهب الحبيس يلتمس عدم إزعاجه وترك صومعته والإتيان به إلى «مِصر»؛ وعلى الفور بعثوا برسل لإعادة الراهب إلى مكانه بعد أن كان قد وصل إلى «قليوب». وهكذا عاد الراهب الحبيس إلى «أبيار»، وفرِح برجوعه أهلها وعادوا به إلى صومعته.
فى تلك الآونة، سمِع بكل تلك الأحداث رجل قبطى يُدعى «الأسعد بن صدقة»؛ فأخذ معه جماعة من الناس للقاء «الملك الكامل»ـ الحاكم بالإنابة عن والده «الملك العادل». وفى اللقاء كاشفوا «الملك الكامل» بعدم رغبة الأقباط فى تولية «القَس داود» رئاسة الكنيسة القبطية، لأن هذا القَس كان سبق أن سعى لمنصب مِطران الحبشة بالمال لكنه رُفض من أجل إيمانه المنتمى إلى الروم المغاير لإيمان أقباط «مِصر»؛ ويذكر «أنبا ساويرس»: «فأنفذ الملك الكامل إلى والى «مصر» يقول له: إن أنت مكَّنت «أبا الفتوح»، وأصحابه يقيمون لهم بطركًا بغير أمرى، شنقتك!».
إلا أنه بعد بضعة أيام سافر «الملك العادل» إلى «الإسكندرية»، فطلب إليه «أبو الفتوح» رسامة «القَس داود» فأذِن له وأمره أن يُرسم سريعا ثم يتوجه هو إلى الإسكندرية لتوه دون إبطاء؛ فأعد «أبو الفتوح» و«القس داود» العُدة لكل ما تحتاجه الرسامة وتوجَّها مع الأساقفة إلى «الكنيسة المُعَلَّقة». ووصلت الأخبار إلى والى «مِصر»، فاصطحب جنوده وأعوانه إلى «الكنيسة المعلقة» ومنع الرسامة؛ فما كان من «القَس داود» إلا أن هرب.
وعاد الأساقفة إلى كراسيّهم؛ وتوقف الحديث عن أمر تلك الرسامة فترة من الزمان. وعن تلك الأحداث يذكر «القمص منسَّى يوحنا»: «وتمكن «أبو الفتوح» من أن يستميل إليه بعض الأساقفة إما بالحيلة ِأو بالإرهاب؛ فوافقوه على الرضا به (بالقس داود)، وعينوا صباح يوم الأحد التالى للاحتفال بتوليته (بطريركًا) فى «كنيسة المعلقة».
وحجز «أبو الفتوح» هؤلاء الأساقفة ليلة الأحد ليبيتوا عنده ليضمن قيامهم برسامة «داود»... ولما تضايق الأساقفة، أنفذوا رسولاً سريًّا إلى كبار المَسيحيين؛ فشق عليهم الأمر وهاجوا وماجوا وهبوا إلى المقاومة». وقد حدثت وقائع كثيرة أسفر عنها فشل أمر رسامة «داود» سرًّا أو بخلاف رغبة الشعب؛ وظلت الأمور هكذا حتى تُوفى «الملك العادل»، و... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم