د. نبفبن مسعد

 عقدَت لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة بالحوار الوطنى جلستها الثالثة الأحد الماضى تحت عنوان «تشجيع التفاعل بين الجماعة الأكاديمية المصرية ونظيراتها فى الخارج، ومتطلبّات البحث العلمي».

وهذا العنوان يتعلّق ببعض مكوّنات ما نطلق عليه الحريات الأكاديمية، أى الجامعية والبحثية التى تشمل:حرية التعبير عن الرأى أثناء المحاضرة وعند إنتاج الكتب والبحوث، وحرية تنظيم الندوات والأنشطة العلمية والبحثية المختلفة، وحرية الوصول إلى المعلومات التى تمكّن من التحليل الموضوعى للظواهر، وحرية الاحتكاك مع الجماعات الأكاديمية والبحثية فى الخارج عن طريق السفر واستقبال الأساتذة الزائرين وعَقد الأنشطة المشتركة، وأخيرًا حرية- والأصّح القول حق- المؤسسات الجامعية فى اتخاذ القرارات التى تمّسها مباشرةً، وهذا يقتضى النظر إلى علاقة الكليات بالمجلس الأعلى للجامعات، كما يقتضى النظر إلى علاقة الجامعات بوزارة التعليم العالي. ومصطلح الحريات الأكاديمية لم ينّص عليه صراحةً الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى ١٩٤٨ والعهدان الدوليان التاليان عليه فى ١٩٦٦، وفى ١٩٩٩ أشارت اللجنة المعنية بمتابعة تنفيذ العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى أن حق التعليم المنصوص عليه فى صلب هذا العهد الدولى لا يمكن التمتّع به إلا إذا جاء مصحوبًا بالحريات الأكاديمية، وفيما يخصّ مصر فإن دستور صادر ٢٠١٤ لم يشر بدوره للمصطلح بذاته، لكنه تحدّث عن استقلال الجامعات فى المادة ٢١، وعن حرية البحث العلمى وتشجيع مؤسساته فى المادتين ٢٢ و٢٦، وعن كفالة الرأى والفكر لكل إنسان فى المادة ٦٥، وهذا كله فى صُلب الحريات الأكاديمية. كما أن الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان جعلَت من بين أهدافها فى محور

الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تشجيع الفكر الإبداعى وتطوير منظومة البحث العلمي. وفيما يخصّ ما دار فى جلسة الحريات الأكاديمية فلقد بدأتُ مداخلتى فيها بالقول إن لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة هى لجنة محظوظة، لأنها اللجنة الوحيدة من بين سائر لجان المحاور المختلفة التى استجاب الرئيس السيسى للمقترحَين الأساسييّن اللذين خرجا عنها، فوجّه سيادته بإنشاء مفوضية مكافحة التمييز وإصدار قانون حرية تداول المعلومات، وكلنا أمل فى أن تحظى حريات المجتمع الأكاديمى وتأكيد استقلال الجامعات باستجابة مماثلة، خصوصًا وقد أجمع كل المشاركين فى النقاش على أهمية البحث العلمي. وذلك أن الحريات الأكاديمية هى واحدة من المؤشرات الرئيسية التى تؤخذ بعين الاعتبار عند تصنيف الجامعات على المستوى الدولى، ثم إن لها عائدها الاقتصادى الملموس من خلال الأنشطة والبرامج البحثية المشتركة بين مصر والخارج، وهى الأنشطة والبرامج التى قد تؤدى القيود البيروقراطية إما لانتقالها من الجامعات الحكومية المصرية للجامعات الأجنبية الموجودة فى مصر أو إلى نقلها من مصر بالكلية، هذا فى الوقت الذى تقصر الموارد الوطنية عن تمويل المشروعات البحثية بسبب الظروف الاقتصادية.

يضاف لكل ذلك أن التفاعل بين الأكاديميين المصريين وغير المصريين هو جزء من قوة مصر الناعمة التى احتفظَت فيها مصر دائمًا بميزة نسبية.يضاف إلى ذلك البحث العلمى الذى أجمع كل المشاركين فى الجلسة على أنه رافعة التنمية ومقياس التقدّم.وذهب المشاركون عن حق إلى أن القيود التى تواجهها الحريات الأكاديمية هى فى معظمها قيود مستحدثة بقرارات تنفيذية من وزراء التعليم العالى المتعاقبين، وكان السبب فى ذلك هو الظروف الاستثنائية التى مرّت بها مصر فى العقد الأخير، أما وقد عادت الأمور إلى طبيعتها فلقد آن الأوان لإنهاء الإجراءات الاستثنائية. كذلك كان من القضايا المثارة بوفرة فى النقاش ما يتعلّق بدور المجلس الأعلى للجامعات، إذ ذهبت الأغلبية إلى ضرورة عودة المجلس ليكون جهة لرسم الإستراتيجية العامة للعملية التعليمية، بعيدًا

عن التدخَل فى التفاصيل بما يمّس استقلال الجامعات. وسيق فى هذا الخصوص العديد من الأمثلة التى هبطَت على الكليات المختلفة بقرارات فوقية من المجلس الأعلى للجامعات فيما يخّص شكل الامتحان وطريقة التدريس وشكل الكتاب الجامعى، دون توقّف أمام الاختلاف بين طبيعة التخصصات المختلفة، فالامتحانات التى تقوم على اختيار الإجابة الصحيحة قد تكون مناسبة للتخصصات العلمية لكنها لا تناسب التخصصات النظرية. وفى إطار ما تكرّر الحديث

عنه داخل الجلسة من ضرورة وضع قانون جديد لتنظيم الجامعات بدلًا من القانون الحالى الذى مضى على العمل به أكثر من نصف قرن، تغيّرت فيها تمامًا البيئة المحيطة بعمل الجامعة وتغيّرت النظرة للجامعة نفسها، بحيث لم تعد التعديلات المتتالية على القانون كافية-بالتالى فإن من المطلوب فى القانون الجديد التحديد الدقيق لدور المجلس الأعلى للجامعات بما يضمن عدم التغوّل على صلاحيات الجامعات والكليات المختلفة. ويتصّل بذلك طلب أن يعاد النظر فى نظام الترقيات، واقترح البعض أن الكليات التى تستوفى معايير الجودة وتحصل على الاعتماد تقوم بترقية أعضاء هيئة التدريس فيها. كذلك كان من بين القضايا التى اشتبك معها معظم المشاركين قضية أسلوب اختيار القيادات الجامعية أى رؤساء الجامعات وعمداء الكليات،علمًا بأن الحضور انقسموا ما بين مطالبين

بالإبقاء على نظام التعيين الحالى، لأن الانتخابات قد لا تأتى بالعناصر ذات الكفاءة بالضرورة، ومطالبين بالعودة لنظام الانتخاب تأكيدًا لاستقلالية الجامعات ولأن التجارب كفيلة بتصحيح نفسها بنفسها. عدا هذين القيدين المتعلقَين بالسفر والأنشطة مع الخارج وكذلك بدور المجلس الأعلى للجامعات، كان هناك اتفاق على عدم وجود تدخّل فى المجمل لا فى محتوى التدريس ولا فى مضمون البحوث، أخيرًا كانت جلسة الحريات الأكاديمية بالغة الثراء حيث شارك فيها ٦٠ مشاركًا، رغم أن الموضوع متخصّص، وامتَد النقاش لأربع ساعات، وتقدّم عدد من وزراء التعليم العالى السابقين وأساتذة الجامعات ومؤسسات المجتمع المدنى والأحزاب باقتراحات حاول هذا المقال أن يعبّر عن أبرزها.

نقلا عن الاهرام