د.أحمد الخميسي 
يقول الكاتب الانجليزي العظيم تشارلز ديكنز: " تتألف الحياة من لحظات فراق كثيرة، واحدة تلو الأخرى". ولا يخالف تلك الفكرة سوى فكرة أن الحياة تتألف من لحظات فرح كثيرة، واحدة تلو الأخرى. نحن نبتهج في الأعياد، وعند الزواج، ومع ميلاد طفل، ونسعد مع ذكرى عيد الجلاء، وحرب أكتوبر، رابع مواجهة عسكرية مع إسرائيل، وعندما ينهي أولادنا دراستهم الجامعية، وبالترقية التي ينالها الوالد في العمل. نحن نفرح بالأحداث الكبيرة فحسب، بينما يقوم فن الحياة على صيد الأفراح الصغيرة، العابرة، التي تمر بنا كل يوم، ولا نلاحظها، ولا نتوقف عندها.
 
أنا شخصيا أفرح كل صباح حين أستيقظ، مجرد أن تستيقظ فرحة، ثم تخطو من حجرة النوم إلى المطبخ، فرحة أخرى. أقوم بإعداد الشاي، وأمسك القدح بيدي متجها إلى الصالة، أجلس إلى المنضدة وقبل أن أشرع في التدخين وشرب الشاي أرفع كفي لأعلى، وألهج بالشكر للرب على اليوم المنتظر.
 
وعندما تهبط إلى الشارع بعد يوم طويل داخل المنزل، وتملأ رئتيك بالهواء بقوة، فإنها أيضا فرحة عزيزة كبيرة.
 
أنت تتنفس، وتتحرك، وتفكر. لحظات فرح واحدة تلو الأخرى، ولا نشعر بها، وعلينا أن نحترف صيد تلك اللحظات.
 
وحتى الذكريات عامرة إذا أردت بتلك اللحظات، أتذكر أخي الكبير عبد الملك، وسيرنا في الشوارع ونحن صغار، نأكل الموز ونلقي بقشره في الشارع ونحن نتصور اننا بذلك نتحدى المجتمع، فنحس البهجة والغرور. فرح. والدي الذي كان يغيب عنا ويغيب نهب تقلباته وانفعالاته وفجأة يطرق باب الشقة في منتصف الليل، وقبل أن نفتح نسمع صوته الأجش العميق يغني أمام باب الشقة : " حسن ونعيمة.. قصة حب جميلة".
 
أي فرحة حتى في العمر الذي انقضى، وفي الذكريات التي تتوالى صورا لحياة لا يمكن استعادتها. وعندما تلم وعكة صحية بأخي الصغير عبد الرحمن، ثم يشفى، أشعر بالفرح لشفائه ولانتصار الارادة الإنسانية واستمرار الحياة. أنظر في عيني " ريان" حفيدي الوحيد من ابنتي، وعمره ثلاث سنوات، حين تجره أمه من يده، فينفض يدها صائحا فيها : " لاء. أنا ولد كبير"، وأشعر بالفرحة.
 
وحين تستعصي علي كتابة قصة، وتصبح مثل عصا من الشوك لا يمكن القبض عليها، أفرح حين أقرأ قصة كاتب آخر، تمكن من القبض على العصا ونزع أشواكها، والانتهاء من عمله! كلها لحظات كثيرة صغيرة من الفرح، لابد من أن نطلق عليها الرغبة في السعادة لكي تقع بين أيدينا وتروي نفوسنا بسائل الفرح السحري.
 
ويمكننا دائما حتى في أشد لحظات الوجع أن نستل البهجة مما كان، فعندما تهجرك معشوقة تذكر القبلات، وليس الدموع، تذكر اليد التي ضغطت على يدك بحب، وليس اليد التي تراجعت وهي تضم أصابعها، تذكر سعادة لحظات الاتصال، وليس مرارة البعاد. لا أذكر من الذي قال إن الأشياء التي لا تولد في الفرحة تولد ميتة ، ويكفي أحيانا لكي يصبح الانسان سعيدا  أن ينصت لصوت صديق تشبعت نبرته بالود، ويكفي للسعادة أن أتذكر أنني قرأت لنجيب محفوظ، وستيفان زفايج، واستمعت إلى موسيقا رحمانينوف، ومحمد الموجي. فكر قليلا .. وستكتشف أن الحياة عامرة إلى ما لا نهاية بفرحة متصلة، في ما جرى، وما يجري الان، وما سيكون غدا.