( 1910- 1994 )
بقلم/ ماجد كامل
تعتبر المؤرخة المصرية الكبيرة ايريس حبيب المصري (1910- 1994) نموذجا رائعا للمرأة المصرية بوجه عام، والمرأة القبطية بوجه خاص، فهي صاحبة موسوعة خالدة في تاريخ الكنيسة ما زالت تعتبر واحدة من أفضل الموسوعات كما سوف نري في ذلك المقال. أما عن إيريس حبيب المصري نفسها، فلقد ولدت مؤرختنا الكبيرة في يوم 10 مايو 1910 من عائلة ثرية، تلقت تعليمها في كلية البنات الأمريكية مما أعطاها فرصة رائعة لاتقان اللغة الانجليزية، كما أنها تعرفت في صباها علي العالم الكبير الأستاذ يسي عبد المسيح (1898- 1959) وكان يتقن اللغة القبطية قراءة وكتابة بحكم عمله كأمين لمكتبة المتحف القبطي، فتعلمت علي يديه اللغة القبطية حتي أتقنتها تمامًا. وبعد تخرجها من كلية البنات أوفدتها وزارة المعارف في بعثة إلي لندن لدراسة علم النفس وتربية الطفل لمدة ثلاث سنوات، وبعد حصولها علي الدبلوم عادت الي مصر وعملت مدرسة بمعهد التربية التابع لوزارة المعارف، وشاركت في تأسيس "جمعية السيدات القبطية لتربية الطفولة"، وفي عام 1953 جائتها فرصة لبعثة أخري لدراسة علوم القبطيات في جامعة "دروبسي" علي يد أستاذ أمريكي يدعي "كيروس جوردون"، ولقد قامت بإلقاء سلسلة من المحاضرات عن مصر وعن الكنيسة القبطية في الإذاعة والتلفزيون الأمريكي وفي فروع جمعية اتحاد السيدات الجامعيات.
ولقد جاءتها الدعوة لكتابة تاريخ الكنيسة القبطية خلال تلك الفترة إذ سألتها أحدي السيدات الأمريكيات "إن كنتم لا تكتبون عن كنيستكم بلغة نستطيع أن نقرأها فلماذا تلومننا إن نحن جهلناها ؟!" فأعتبرت كلامها هذا نوع من التحدي لها، فقررت فورعودتها إلي الوطن الحبيب مصر أن تركز جهودها علي كتابة تاريخ الكنيسة القبطية باللغة الإنجليزية حتي يستطيع الأجانب أن يقرأوه، ورغبة منها أن لا تجعله مادة دراسية جافة، آثرت أن تكتبه في شكل قصة، وأسمته "قصة القبط the Story of the Copts " وذلك أسوة برائعة وول ديورانت (1885- 1981) "قصة الحضارة "في 22 جزء، والتي لاقت – ومازالت - رواجًا عالميًا كبيرًا، ثم عاتبها بعض الأقارب فيما بعد قائلين لها لماذا تكتبين للأجانب ولا تكتبي بالمثل لبني وطنك من المصريين ؟، فقررت لحظتها أن تعيد كتابة ما كتبته باللغة الإنجليزية مرة أخري إلى اللغة العربية، وأرسلت مخطوطة الجزء الأول منها إلي الأب متي المسكين (1919- 2006)، فأشار عليها أن تنشر الاقتباسات التي أقتبستها من الكتاب الأجانب بلغتها الأصلية في الهامش، ثم ترجمتها باللغة العربية في نفس الهامش، وذلك حتي تقطع الفرصة علي كل من يشكك في دقة الترجمة أو أمانتها، وهذا ما فعلته بعد ذلك في كل كتبها، ولقد ذكرت في مقالة لها نشرت في مجلة مدارس الأحد بتاريخ "أبريل- اغسطس 1980" بعنوان "مسار قصة الكنيسة القبطية " أن الهدف الرئيسي الذي وضعته أمامي عند كتابة "قصة الكنيسة القبطية " هو تقديم الدليل المادي المحسوس للعالم الغربي علي قدرة المرأة القبطية علي الكتابة بلغة يفهونها لتعلمهم أمجاد الكنيسة القبطية، والهدف الثاني – كما ذكرت المؤرخة الكبيرة في نفس المقال – هو أن تبين للمواطن المصري سواء المسلم او القبطي الدور الوطني الكبير الذي لعبته الكنيسة القبطية علي مر العصور من خلال الثبات علي العقيدة الآرثوذكسية، حيث أن المعرفة الحقيقية لتاريخ كنيستنا المحبوبة من أهم الدوافع إلي تقوية إيماننا بالله ومحبتنا لوطننا وثقتنا بأنفسنا. ومن فرط محبتها للدراسات القبطية، ساهمت في إنشاء معهد الدراسات القبطية سواء بالتمويل أو بالتدريس في قسم التاريخ القبطي بالمعهد.
ولقد عينها الرئيس الراحل محمد أنور السادات عضوًا في مجلس الشوري في عام 1980، حيث كان معجبًا أشد الأعجاب بكتابها عن قصة الكنيسة القبطية، ولقد أبدي صراحة إعجابه الشديد بكتابها هذا في ثلاث مناسبات مختلفة:- المناسبة الأولي عندما ذهب ليعزي في رحيل قداسة البابا كيرلس السادس، إذ قال للآباء الحاضرين أنه حريص علي إعادة أمجاد كنيسة الإسكندرية، والتي تعرف علي تاريخها من خلال كتب الأستاذة إيريس حبيب المصري. المناسبة الثانية في الخطاب الذي ألقاه أمام القيادات الدينية الإسلامية والمسيحية في 9 فبراير 1977، حيث أشاد بكتابها وبالمقدمة التي كتبها لها الأستاذ المسلم، أما المناسبة الثالثة والأخيرة التي أشاد فيها بكتابتها، فلقد كانت في يوم 25 ديسمبر 1980، عندما ألتقي بأعضاء مجلسي الشعب والشوري من الأقباط، وكانت فترة احتقان طائفي كبير، فسألته أن يصنع مبادرة مع الكنيسة، فأطرق برأسه قليلا، وقال أمام جميع الأقباط الحاضرين "أنني مدين لكِ بالكثير وأنني تتلمذت علي كتبك ومؤلفاتك".
ولقد توفت إيريس حبيب المصري يوم السبت 2 يولية1994 عن عمر يناهز 84 عامًا.
ولقد أثرت المكتبة القبطية بالعديد من الكتب الرائدة، لعل أشهرها هي موسوعتها الكبري قصة الكنيسة القبطية في تسعة أجزاء، وبيانها كالتالي:-
1- الجزء الأول ويبدأ من رحلة العائلة المقدسة إلي أرض مصر حتي عام 435م، وصدر عام 1961.
2- الجزء الثاني ويحتوي علي الفترة الواقعة ما بين (435- 948م)، وصدر عام 1968.
3- الجزء الثالث ويحتوي علي الفترة الواقعة ما بين (948- 1518م)، وصدر عام 1971.
4- الجزء الرابع ويحتوي علي الفترة الواقعة ما بين (1526- 1870م)، وصدر عام 1975.
5- الجزء الخامس ويحتوي علي الفترة الواقعة ما بين (1870- 1927م)، وصدر عام 1984.
6- الجزء السادس ولقد صدر علي جزئين، الجزء الأول يضم الفترة الواقعة ما بين (1928- 1946)، أما الجزء الثاني فيضم الفترة الواقعة ما بين (1946- 1956)، وصدرا عام 1985.
7- الجزء السابع ويضم الفترة الواقعة ما بين (1959- 1971) وهو عصر البابا كيرلس السادس وصدر عام 1988.
8- الجزء الثامن ويضم بعض الشخصيات المضيئة في تاريخ الكنيسة وعن تعاليم آباء الصحراء وعن المخطوطات في الأديرة والفن في المسيحية ، وصدر عام 1988 .
9- الجزء التاسع ويضم سيرة ستة عشر شخصية معاصرة ما بين كهنة وعلمانيين، وصدر عام 1990 .
ولم تقتصر جهود إيريس حبيب المصري علي مصر القبطية فقط، بل أمتدت أيضًا إلي مصر الفرعونية، والجدير بالذكر أنها تنبهت من وقت مبكر الي الاهمية العلمية والثقافية لكتاب "فجر الضمير" لجيمس هنري بريستد، فقامت بترجمة شذرات منه ونشرتها في مجلة "المجلة الجديدة" وكان يرأس تحريرها الكاتب والمفكر الكبير "سلامه موسي" (1887- 1958) وكان ذلك خلال عام 1938، وذلك قبل أن يقوم سليم حسن بترجمته ترجمة كاملة بوقت طويل، كذلك أيضًا كتبت سلسلة مقالات في نفس المجلة عن أشهر الملكات المصريات في العصر الفرعوني. ولقد كتبت سلسلة كتب رائعة عن التواصل الحضاري بين مصر الفرعونية ومصر القبطية، نذكر منها "ظل الخيرات العتيدة "، و"لماذا نسينا ؟, "وقائع أعجب من الخيال " و"مسيحنا فوق الزمان". ففي كتابها "ظل الخيرات العتيدة " وفي الفصل الأول منه وعنوانه "أبرز السمات المصرية" تؤكد الكاتبة أن المساواة بين الشعوب هي أبرز سمات المصريين، ويظهر هذا جليًا وبوضوح علي جدران معبد أبيدوس، وفي اللوحة التي تصور منظر المحاكمة، نجد زنوج ولبيبون وسوريون، ونجد مترجمون يقفون إلي جانبهم ليترجموا أعترافاتهم أمام أوزوريس. سمة أخري من سمات المصريين هي الفرح بالآخرة، حيث يهتف الميت "إلي الغرب إلي الغرب إلي مملكة العذوبة والصفاء، إلي المكان الذي أنت يا أوزوريس موجود فيه" والجدير بالذكر أن كتاب الموتي أسمه الحقيقي بالهيروغليفي هو "الخروج إلي النهار" أما أسم كتاب الموتي، فهو الأسم الذي أطلقه العالم الانجليزي "واليس بدج "(1857- 1934) علي الكتاب. سمة ثالثة من سمات المصري القديم، هي تقديم الشكر لله عند النصر، وهذه واضحة في أنشودة النصر العظمي التي أنشدها تحتمس الثالث (من الأسرة الثامنة عشرة) وقدم فيها الشكر للإله، فهو وحده مانح النصر. أما السمة الرابعة التي ميزت المصري القديم، فهي تقديس الأمومة، ولهذا السبب رسم المصري القديم جميع الآلهات مجنحة، لكي تظلل بجناحيها علي أولادها فتشمهلم بحبها ورعايتها.
وفي نفس الكتاب، كتبت فصلا بعنوان "لحن النيل" تذكر المؤلفة أن المصري القديم قد عبد نهر النيل باعتباره شريان الحياة، فمصر كما قال عنها هيرودت المؤرخ اليوناني الشهير هي "هبة النيل" ولذلك أنشد له المصري القديم قائلا: (السبح لك أيها النيل المتفجر من عمق الأرض لتطعم مصر، إنك ذو طبيعة خفية غامضة حتي في النهار، إنك تفيض علي الحقول وتعطي رطوبة للأراضي القاحلة البعيدة عن الماء، إنك الندي المتساقط من السماء، وهو الذي يصنع الشعير ويخلق القمح، حين تفيض تتهلل الأرض وتبتهج، فيفرح جميع الناس ويضحك كل فم، إنه الآتي بالخبز الغني بالطعام، إنه يخلق العشب للبهائم ويملأ المخازن، أنه يمنح الفقراء منحًا وهبات).
وفي كتابها "مسيحنا فوق الزمان "ترصد نقاط التلاقي والتشابه بين الحاضراتين المصرية القديمة والقبطية، منها هذه الصلاة، وهي مكتوبة علي بردية عثر عليها عالم الآثار الألماني "جورج ايبرز"، فقام بترجمتها إلي اللغة الانجليزية، ومدي تشابها مع الصلوات القبطية:
(أيها الواحد الأوحد، لئن تساقطت الشهب في ليلة صيف، فمازالت قوانينك الثابتة اللامتغيرة تقود الكواكب في مسارتها المستقيمة، أيها الروح الصافي الماليء الكل، أظهر ذاتك في بوصفك النور حين أفكر، والصدق حين أتكلم – الصدق دائما وفي كل شيء).
وفي كتابها " وقائع أعجب من الخيال " ترصد تشابه آخر للصلوات المصرية القديمة مع الصلوات القبطية:- (يا سيدي من عمق حكمتك علمني أن اكون شعلة لأولئك الذين في الظلام لكي أملأ قلوبهم دفأ وأنير ظلامهم، إلي أن يتمكنوا بمعرفتهم أن يشعلوا نارهم الذاتية، وبإشعالها يستطيعون مغادرة الظلام ليعيشوا في وهج الشمس) أما الصلاة القبطية فتقول (ليشرق علينا نور وجهك، وليضيء علينا نور علمك الإلهي، وأجعلنا يا سيدنا أن نكون بني النور وبني النهار ... إلخ).
بعض الذكريات الشخصية مع كاتب هذه السطور
ومن دواعي فخري وسروري أنني قد تشرفت بالتلمذة علي يد المؤرخة العظيمة "أيريس حبيب المصري " خلال فترة دراستي بقسم اللغة القبطية بمعهد الدراسات القبطية خلال الفترة من (1987 – 1990). وأتذكر بكل فخر أنها تهدي جميع الطلبة الدارسين كتبها موقع عليها بهذه العبارة "إلي أبني العزيز ... راجية لك المزيد". كما تشرفت بزيارتها في منزلها العامر بمصر الجديدة بناء علي دعوة كريمة من سيادتها. وأعتز كثيرا بالصورة الفوتغرافية التي تصورها طلبة السنة الثالثة مع سيادتها بمعهد الدراسات القبطية صباح يوم الجمعة الموافق 18 مارس 1988 ، ولقد تكرمت سيادتها بوضع الصورة ضمن مجموعة الصور الملحقة بالجزء الثامن من موسوعتها " قصة الكنيسة القبطية " ولقد وضعت هذه الصورة ضمن مجموعة الصور الملحقة بالمقالة وأترك لحضراتكم محاولة التعرف علي شخصي الضعيف بأنفسكم .
ويبقي في النهاية نداء ورجاء أخير، فلقد لاحظت وجود العديد من المقالات المجهولة للمؤرخة الكبيرة متناثرة في العديد من الدوريات المختلفة، فياليت لو أهتم أحد بجمعها وإصدارها في كتب، ويكون هذا نوع من الوفاء والتكريم للمؤرخة الكبيرة في ذكري وفاتها.
بعض المراجع المختارة للمقالة :-
1- مينا بديع عبد الملك، أعلام مضيئة في تاريخ مصر، بيت مدارس الأحد، الطبعة الأولي نوفمبر 2002 .
2-كلمة رثاء لنيافة الحبر الجليل الأنبا غريغوريوس وردت في موسوعة "موضوعات روحية " .
3- بعض من كتبها ومؤلفاتها ومقالاتها.
4- بعض الذكريات الشخصية من كاتب هذه السطور.