فى مثل هذا اليوم6 يوليو 1785م.

سامح جميل
يمرّ يوم السادس من يوليو (تموز) وهو يحمل ذكرى اقتصادية مهمة ليس للولايات المتحدة فقط، بل للاقتصاد العالمي، إذ يمثّل مرور نحو 235 عاماً على إصدار المجلس القاري الأميركي في نيويورك الدولار ليكون عملة رسمية للولايات المتحدة.
 
وعلى غير العملات الرسمية المختلفة في شتى بقاع الأرض وقصص نشأتها وسكّها وتطوّر رحلتها، تأتي أهمية العملة الخضراء، وفق التوصيف الاقتصادي الشائع لها، وقصتها التي وُلدت من رحم "حروب التحرّر مع الاستعمار الأوروبي"، ثم الحرب الأهلية الأميركية، حتى تحوّلت عبر الأزمنة إلى استثنائية أهميتها مع هيمنتها على غالبية المعاملات التجارية وبما يتجاوز ما نسبته 83 في المئة في العالم.
 
وفق ما هو موثّق في التاريخ الأميركي وعلى موقع مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، فلم يكن ظهور الدولار كعملة رسمية بين ليلة وضحاها، إذ مرّت عملية اعتماده ثم سكّه وطرحه في النهاية، برحلة طويلة على مدار أكثر من عقد من الزمن.
 
وبدأت الحكاية، بحسب ما ورد في كتاب جاسون غودوين، (العملة الخضراء: الدولار القوي واختراع أميركا) مع هجرات المستعمرين الأوروبيين إلى الولايات المتحدة عام 1620، حيث أخذ هؤلاء المستوطنون معهم في البداية ذهباً وعملات إنجليزية، لكنهم لم يكونوا من الأثرياء وسرعان ما نفدت الأموال وأصبحوا عاجزين عن شراء الغذاء وجلود الحيوانات وحاجات أخرى من السكان الأصليين للقارة الأميركية.
 
وبعد وقت قصير من ذلك التاريخ، اكتشف المستوطنون أن أنواعاً معينة من الأصداف كانت ذات أهمية رمزية لعددٍ كبيرٍ من السكان الأصليين، وبناء عليه أمكن تبادلها مع المستعمرين الإنجليز مقابل ما يحتاجون إليه من أمور ضرورية، مثل الغذاء، إلّا أنّه وفق، غودوين، وبعدما أصبح التبادل بين المستوطنين أنفسهم مهماً للغاية، بدأ هؤلاء باستخدام سلع أخرى في عملية المقايضة. ففي المستعمرات الشمالية، استخدموا الذرة والأسماك، وفي مستعمرات جنوبية عدّة كانوا يفضّلون التبغ. وقد أُعلن الكثير من هذه السلع أموالاً قانونية على الرغم من أن بعضها لم يلق نجاحاً كعملة.
 
مع مرور السنوات، أدّى تذبذب قيمة التبغ في التداول وكان سعر السلع يختلف حال الدفع باستخدام العملة الصعبة، (الذهب أو الفضة أو قطع النقود من نوع ما)، بدلاً من استخدام أحد أشكال العملات القانونية مثل الأصداف، لأن العملة الصعبة كانت الأكثر قبولاً، بالتالي الأكثر نفعاً.
 
وعلى الرغم من ذلك، لم يكن لدى المستعمرين الأوائل خيارات بديلة عن هذا الشكل المتطوّر للمقايضة لأن السلطات البريطانية رفضت السماح بتصدير قطع النقود الذهبية والفضية، كما رفضت السماح للمستعمرين بسك عملتهم الخاصة. فكان من الأسهل لهم استخدام العملات الإسبانية، التي باتت تتداول في الولايات المتحدة حتى أوائل القرن التاسع عشر.
 
ومع تشدّد السلطات الإنجليزية والعبء الضريبي الذي فرضته الحكومة البريطانية على المستوطنين، قاد ذلك إلى حدوث قطيعة كاملة مع الجانب البريطاني، وعندها بدأت تتبلور الأصوات الأميركية المُطالبة بالاستقلال عن أوروبا، تحديداً إنجلترا، وتزامن ذلك مع تحرّك بعض الولايات الأميركية باتجاه طبع عملات خاصة. أبرزها كانت ولاية ماساتشوستس التي بدأت بالتعامل بالجنيه الماساتشوستسي عام 1652، ثم سرعان ما تكرّر الأمر في ولايات أُخرى.
 
وبعد إعلان الاستقلال عام 1776 إثر حروب طويلة ومكلفة مع القوات البريطانية، حاول الآباء المؤسسين التفكير في وحدة الولايات المالية لدفع تكاليف تلك الحرب. وذكر بنيامين فرانكلين، أحد الآباء المؤسسين للثورة، قائلاً "أصدر الكونغرس كمية كبيرة من الأوراق النقدية لدفع قيمة الملابس والسلاح وطعام الجنود وتجهيز سفننا، من دون دفع ضرائب لمدة ثلاث سنوات، لقد حاربوا وهزموا واحدة من أشدّ الأمم قوة في أوروبا". وبحسب مجلس الاحتياطي الفيدرالي، عرفت تلك الأوراق المالية الجديدة باسم "كونتننتالس" (تعني القاري) وسُمّيت باسم المجلس القاري الذي كان مسؤولاً عن إعلان الاستقلال والذي كان يدير الحرب ضد بريطانيا. لكن سرعان ما فقدت هذه الورقة المالية قيمتها مع انتهاء الحرب، وكان لزاماً على الجمهورية الجديدة وضع نظام اقتصادي ومالي جديدَيْن.
 
وعام 1785، اجتمع المجلس القاري في نيويورك وأصدر الدولار في السادس من يوليو (تموز) ليكون عملة رسمية للولايات المتحدة الأميركية الجديدة. وفي قراره أوضح الكونغرس أن يكون النظام عشرياً ليعادل الدولار مئة سنت. غير أن خلافات دبّت بين أعضائه، أدت إلى تأخر سكّ العملة في أميركا حتى عام 1792، لكنه صمّم حينها على شكل 3 فئات، الفئة الأعلى كانت مصنوعة من الذهب، والأقل منها قيمة كانت مصنوعة من الفضة والأخيرة كانت مصنوعة من النحاس. واعتُمدت هذه العملة في العام ذاته العملة الرسمية للولايات المتحدة.
 
وعلى مدار العقود السبعة اللاحقة، بقيت الأوضاع كما هي، إلى أن استطاعت وزارة الخزانة الأميركية طبع أوراق الدولار في منتصف الحرب الأهلية عام 1862، فظهرت العملة بشكلها الأخضر الحالي، وكانت مكوّنة من لونين الأسود والأخضر، استُخدمت حينها منعاً لتزييفها. ومنذ ذلك الوقت، ظهر الدولار في عالمنا وبدأت عملية الطباعة، إذ قدّر مجلس الاحتياطي الفيدرالي كمية ما طُبع بنهاية الحرب الأهلية الأميركية بنحو461 مليون دولار، وحينها جرّم الكونغرس من يرفض التعامل بها.
 
على قدر صعوبة ظهور الدولار إلى العلن، كانت رحلة صعوده على رأس النظام الاقتصادي العالمي على مدار العقود الأولى للقرن العشرين.
فبعد طباعة الدولار وتداوله، لم تكن العملة مغطّاة بالذهب (ما يعني عدم قدرتك على استبدال العملة الورقية بالذهب متى أردت)، شهد الاقتصاد الأميركي موجة كبيرة من التضخم عام 1879، خسر خلالها الدولار جزءًا كبيراً من قيمته، ليأتي قرار في المقابل بتغطيته بالذهب مِمّا خفّض التضخّم وأنعش الاقتصاد.
 
خمسة عقود أخرى كانت فاصلة عن موجة كساد لم يشهدها الاقتصاد الأميركي من قبل، سُمّيت بـ"الكساد العظيم" عام 1929 واستمرت لسنوات، دفعت معها الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت إلى إلغاء تغطية الدولار بالذهب عام 1933، قبل أن يعود عن قراره في العام اللاحق مع تعديل نسبي لسعر الدولار، واستمر الحال إلى أن قادت الولايات المتحدة الجهود الدولية لتوقيع اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944 (عُقد المؤتمر في ولاية نيو هامبشير وحضرته 44 دولة من حول العالم، واستمر لأكثر من 22 يوماً)، وهي تلك المحطة الفاصلة في الاقتصاد الدولي والأميركي وإنشاء نظام اقتصادي عالمي جديد ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، إذ تمخّضت عنها نشأة المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها "البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي".
 
وفق الاقتصاديين والمعنيين، كانت تلك المحطة هي "البداية الفعلية لهيمنة الدولار عالمياً على مجمل الاقتصادات الدولية، وتحوّله من عملة محلية إلى عملة عالمية تربّعت على عرش المعاملات التجارية بين الدول في النظام العالمي الجديد ما بعد "بريتون وودز"، جاءت فيه الولايات المتحدة وعملتها الخضراء على رأسه".
 
ووفق مخرجات "بريتون وودز"، نُظّمت التجارة العالمية الدولية واتّفق على تطبيق بعض الشروط والقيود عليها، كان أبرزها اعتماد الدولار الأميركي كمرجع رئيس لتحديد سعر عملات الدول الأخرى. وشُكّل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتطوير والتعمير، وعليه صارت الدول الـ44 تستند إلى الدولار الأميركي لتحديد قيمة عملاتها دولياً.
 
في هذه الأثناء أيضاً، كانت الولايات المتحدة تمتلك 75 في المئة من ذهب العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان الدولار العملة الوحيدة على مستوى العالم المغطّاة بالذهب (بقية الدول تخلّت عن تغطية عملاتها بالذهب بعد حصول تضخّمات في اقتصاداتها)، مِمّا دفع عدداً كبيراً من دول العالم إلى العمل على تكديس الدولارات الأميركية بهدف استبدالها بالذهب مستقبلاً كاحتياطي، وصارت بلدان عدّة تستخدم عملة الدولار كاحتياطي النقد الأجنبي، إذ وافقت الدول الأعضاء بين عامَيْ 1945 و1971 على المحافظة على أسعار صرف عملاتها مقابل الدولار في وقت كانت أوقية الذهب حينها تساوي 32 دولاراً.
 
ويُعرف هذا النظام بنظام "بريتون وودز" وقد استمر حتى عام 1971، عندما قرّرت الحكومة الأميركية وقف تحويل الدولار واحتياطيات الدول الأخرى من الدولار إلى ذهب. ومنذ ذلك الحين، ظلّت الدول الأعضاء في الصندوق حرة في اختيار أي نظام لتسعير عملتها مقابل العملات الأخرى، عدا اللجوء إلى الذهب. وبات الدولار الأميركي يستمدّ قوته من حجم الإقبال على شرائه لاستخدامه عملة احتياطية أو لتسديد ثمن تجارة، إذ إن أسعار بضائع عدّة يتاجر بها عالمياً، تُسعّر بالدولار. كما أنه وبسبب كبر حجم السوق الأميركية كشريك تجاري، تشتري دول كثيرة الدولار أو تحتفظ به لتسديد ديونها للولايات المتحدة كما أن دولاً عدّة تحتفظ به احتياطياً إضافياً إلى الذهب.
 
في ظلّ التململ الدولي والعالمي من الهيمنة الاقتصادية الأميركية وبزوغ قوى اقتصادية أخرى، كالصين والدول الأوروبية، فضلاً عن استمرار الاضطرابات والتقلّبات الاقتصادية التي يشهدها العالم (مثل الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 والأزمة المالية العالمية 2008)، مع انتشار مفاهيم "حرب العملات" و"الحروب التجارية" و"حروب الطاقة"، إلى آخره وصولاً إلى عالم ما بعد كورونا وأعنف الأزمات الاقتصادية شدّة في العصر الحديث، بحسب توصيف التقارير الدولية، فتتباين آراء المعنيين والمتخصّصين بشأن قدرة الدولار الأميركي على استمرار هيمنته على الاقتصاد العالمي، وما إذا كانت رحلة صعوده قد أوشكت على الانتهاء.!!