.. ولا تجديد، ولا إصلاح، ولا تحديث للخطاب الدينى دون تعليم مدروس وهادف وجاد، فهو الطريق الصائب والمحكم للإصلاح والتحديث، والتعليم يفتح الأبواب على ثقافات العالم، الذى يعتمد احترام القانون الدولى وحقوق الإنسان أساسًا للتعاون والمشاركة والتبادل العلمى والمعرفى، وبه تسمو قيم التسامح والخير والاستنارة، والأهم ترسيخ قواعد المنهج العلمى فى البحث والدراسة بالدليل والبرهان.
واعتماده كمصدر وحيد لتفسير الظواهر جميعها بعيدا عن الخرافات التاريخية التى تخالف العقل، وكذلك الفهم الموضوعى للتراث واعتباره مقبولا فى إطار الأساطير التاريخية فقط، لا يتعداها أو يتجاوزها، وإذا تجاوز حدوده وجب خضوعه للبحث العلمى، وكان تصنيفه منافيا للعقل والعلم، ومن ثَم أصبح مناهضا وليس مؤيدا، وعائقا وليس مطابقا، أو داعما للتأريخ والمعتقد.
والتعليم هو السبيل لتغيير وتحديث القيم الإنسانية، واعتمادها صالحة فى زمن دون غيره إذا لزم الأمر، وما كان معتبرا فى زمن مضى وأضحى مناهضا ومخالفا للقيم الإنسانية المعتمدة وجب تعديله ونسخه مجتمعيا.. خذ مثلا مفاهيم العدل والمساواة والحرية والمواطنة، جميعها حق مطلق للجميع، تسمو وترتفع عن كل القيم الدينية إذا تناقضت مع هذه الحقوق الأساسية.
فإذا احتكر دين من الأديان العدل لصالحه وأباح فى نفس الوقت ظلم الغير، أو كان داعما لمنهج الاستعلاء أو الاستقواء على الآخر، أو يرفع حق المواطنة لصالح عقيدة الولاء والبراء، أو يرى أن المخالف أنقص أو أبخس دمًا أو مقامًا من أنصاره وعشيرته، أو يحرض على سلب حقوق الغير دون وجه حق.. وجب تعديلها فورا بما يتفق مع القيم الإنسانية المتوافق عليها.. هذه القيم تظل حبيسة هذا الفهم الجاهلى الأُمّىّ إذا عم الجهل وانتشرت الأمية والبلاهة وتوارت المعرفة والوعى والثقافة، سواء كان الأمر مدبرا ومقصودا أو بغفلة أو سهوا، ولا سبيل إلا التعليم والثقافة لإدراك خطورة استمرار هذه القيم دون تعديلها.
والتعليم فى مجمله معنىّ بالاعتراف بحقوق الإنسان فى الحياة وفى الحرية والمساواة والعدل، وهى قيم إنسانية راسخة ومتجددة.. الطبيب مثلا يعتبر العلاج حقا وواجبا للجميع، للمجرم والبرىء، كما الظالم والمظلوم، والغنى والفقير، فهو يتعامل مع حالة وليس مع الشخص، دون النظر إلى وضعه أو دينه، وكذلك المهندس سواء فى إنشاء الطرق والمواصلات أو البنايات أو الإنتاج فهو حريص على سلامة الجميع دون تفرقة أو تمييز.
والقاضى همّه تطبيق القانون على الجميع دون تحيز، والزارع والمعلم والمُربّى هم جميعا معنيون بالإنسان دون تفرقة، إلا أن المتطرف الجاهل لا يعترف بهذه الحقوق، فهو يعتبرها حقا له ولعشيرته دون غيره، يزهق الأرواح دون تمييز، ويقتل الأبرياء دون تصنيف، ويتعدى على القانون دون حق، والتعليم هو السبيل لتغيير هذه المفاهيم عند الغالبية.
وربما يتساءل أحدهم هل من الإرهابيين متعلمون وحاصلون على الشهادات العليا؟ وأجيبك: نعم.. لكن ما بين أيدينا الآن ليس تعليما هادفا ومدروسا، بل تلقين وحفظ، ولا يرسخ لقيم العدل والحق والمساواة، فضلا عن أن المناهج التعليمية تحمل داخلها بذور الفرقة والانقسام والتحيز والإقصاء، وأن الكثير من نماذج القدوة والإسوة التاريخية محل الحجج والأدلة ليس بالمستوى الإنسانى المطلوب، بل أجزم بأن أولى مراحل التعليم الجاد فى بلادنا تنقية المناهج الدراسية من كل الصور المخالفة للعقل ولقيم التسامح والإنسانية.
ومحصلة التعليم الجاد دراسة المشاكل بأبعادها وزواياها، ومن ثم الفهم والتمييز والفرز ودراسة البدائل واتخاذ القرار المناسب فى وقته، مع الإيمان بحق المجتمعات فى دراسة هذه البدائل وهذه القرارات بصفة دورية وتغيير ما يلزم، ومن ثم فإن التعامل مع القوانين والتشريعات محكوم بمصالح المجتمع، يضيف ويحذف ويبدل ويعدل ما كان من الضرورى حذفه أو تبديله أو تعديله.. المصلحة تسبق التشريعات والقوانين، بل تسبق النصوص والأحكام.. فدون التعليم الجاد، فإن الجهلاء ينتصرون ويتقدمون الصفوف، والجهل طريق الفقر والفوضى والعنصرية والتضليل.. «إذا أردت التحكم فى جاهل، فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف دينى» (ابن رشد).
ويبقى السؤال: لماذا يرفض رجال الدين التحديث والتنوير؟، والإجابة ببساطة أولا: قبول التحديث يعنى التنازل عن الوجاهة والصدارة والمكاسب.
ثانيا: يتصورون أن البناء الدينى مسنود ومرصوص بعضه إلى بعض، فإذا كان البناءون منهم من أساء الرص ومنهم من أحسن إليه، ومنهم الصادق ومنهم المنافق، فإذا ما حاولنا سحب وجرّ السيئ بمهارة للترميم والإصلاح وسد الفُرج، خافوا أن يهتز ويتصدع البنيان المرصوص وتضيع الصدارة.. أرأيت صفا فى الصلاة بطلت صلاته لخروج أحدهم، وما فتئ المصلون يرممون الصفوف من الخلف ويسدون الفُرَج من كل جانب؟.. هكذا يكون الترميم دون بطلان.. استقيموا ورمموا وسِدوا الفُرَج يرحمكم الله.
نقلا المصرى اليوم