هاني لبيب
لا تزال علاقة المثقف بالدولة فى عصر الرئيس جمال عبدالناصر من الإشكاليات التى تستحق الرصد والتحليل.. فعلى الرغم من أن نظام ما قبل ثورة يوليو 1952 كان يسمح بوجود مساحة للمثقفين لتولى مناصب قيادية ووزارية، فإن هذا لم يمنع من وجود خلافات وأزمات بين المثقفين والسلطة.. وصلت إلى الحد الذى تعرض فيه المثقفون للإيذاء، بداية من الليبراليين الذين دخلوا السجون، وتعرضوا للاستبعاد من عملهم الحكومى بقسوة شديدة، مرورًا بمثقفى كل من: الحزب الوطنى وحزب مصر الفتاة.. حينما وجدوا أنفسهم فى السجون لمدة غير قصيرة، وصولًا إلى اعتقال الشيوعيين مع شتى التيارات السياسية فى
عام 1946.
بعد ثورة يوليو 1952 حدث تغيير جذرى للحياة الثقافية المصرية. وتغيرت أدوار كثيرة فى المجتمع، وفى مقدمتها أدوار المثقفين بتياراتهم المتعددة. وقد صارت العلاقة بين المثقفين والسلطة تُدار بمنطق الأزمة.. أزمة المثقفين الأولى فى الخمسينيات، وأزمتهم الثانية فى الستينيات.
من هنا تأتى أهمية كتاب «المثقفون وعبدالناصر» للدكتور مصطفى عبدالغنى، والذى هو فى الأصل رسالته للدكتوراه، والتى يرصد فيها شكل علاقة المثقفين بالسلطة فى مصر بين عامى 1952 و1968، وهو تاريخ آخر وزارة شكّلها جمال عبدالناصر.
يقسم الكتاب.. المثقفين إلى أنماط: الصامت، والمهادن، والمؤيد. ولقد بدا واضحًا أن المثقف الليبرالى فى فترة الأربعينيات قد تحول إلى المثقف الصامت فى فترة الخمسينيات بعد أزمة مارس 1954 (أحمد أبوالفتح ود. وحيد رأفت). كما ظهر موقف جديد من التمرد إلى التأييد.. نعثر عليه لدى كل من التيارين: اليسارى المصرى (عبدالرحمن الشرقاوى ويوسف إدريس)، والإسلام السياسى (الشيوخ: حسن الباقورى ومحمد الغزالى وخالد محمد خالد).
أما النمط الأخير، فهو المهادن الذى عرف منذ البداية الطريق الوحيد للبقاء فى معسكر الثورة (مدرسة أخبار اليوم: بداية من مصطفى أمين وعلى أمين، ومرورًا بمحمد زكى عبدالقادر وجلال الدين الحمامصى، وصولًا إلى موسى صبرى وأنيس منصور).
من أهم ملامح كتاب «المثقفون وعبدالناصر» أنه اعتمد على معلوماته التى ارتكز عليها من خلال رصده العديد من الأحداث بأسلوب محاضر النقاش الشخصية، والمصادر الأساسية والوثائق المهمة. وفى الكتاب شهادة للدكتور لويس عوض، وملحق لأوراق قضية د. عبدالمنعم الشرقاوى، بالإضافة إلى رصد شامل للمثقفين المعاصرين من حيث أصولهم الاجتماعية والمؤثرات
الثقافية عليهم.
بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف على شكل العلاقة بين المثقفين وجمال عبدالناصر، فقد اتخذ بعض المثقفين موقفًا.. وكأنهم الصوت الصارخ فى البرية رغم أن بعضهم قد اتخذ نمط المثقف المهادن، والبعض الآخر اتخذ نمط المثقف المؤيد، وفى كل الحالات لم يكونوا متمردين بقدر ما كانوا صامتين. والغريب أنهم قد تحولوا فجأة ضد المرحلة الناصرية، وكأنها عار عليهم، وتناسوا أنهم جزء أساسى منها ومشارك فيها.
لا أعتقد أن عبدالناصر كان ملاكًا أو قديسًا، ولكن دون شك كان زعيمًا قوميًّا وعربيًّا، وإذا أردنا تقييم عبدالناصر أو التجربة الناصرية.. فيجب أن يتم هذا فى توازن دقيق تام بين الإنجازات والتحديات، كما يجب أن نقيم عوامل أخرى، منها: دور النظام السياسى، ودور المثقفين، ودور الاستعمار بصوره العسكرية والاقتصادية المختلفة، وبجنسياته المتعددة الإنجليزية والأمريكية و.. إلخ.
نقطة ومن أول السطر..
إذا كان هذا هو حال المثقفين فى المرحلة الناصرية.. فالآن تم استبدال أنماط المثقفين السابقة فى زمن العولمة بأنماط أخرى، منها: المثقف الغائب وعابر القارات والخبير واللاعب وأعضاء اللوبيهات، إلى آخر هذه الأنماط المُعَوْلَمة.
نقلا عن المصري اليوم