يسعدني أن أعيد نشر هذا المقال الهام، الذي كتبته بنعمة الله في مجلة الكرازة، منذ عامين.. لنتذكر باستمرار الغنى والنعمة العظيمة التي نحن فيها مقيمون (رو٥: ٢).
القمص يوحنا نصيف
مقال منشور بعدد الكرازة الجديد، الصادر اليوم.. يحوي فكرة هامة، تفتح أعيننا على مقدار الغنى الهائل، الموهوب لكل إنسان مسيحي..
عندما صار الكلمة جسدًا وسكَنَ فينا (يو1: 14)، فقد فتح لنا معه حسابًا مُشتَرَكًا Joint Account.. وجعلَ هذا الحساب لخدمة البشريّة كلّها، بعد أن وضع فيه كلّ غِناه الإلهي؛ انتصاره على الموت.. روحه القدُّوس.. كلماته الحيّة.. سلامه الفائق.. حُبّه المُشبِع.. نوره ومجده... وقد أصبح كلّ إنسان يقبل الإيمان بالمسيح، ويدخل معه في عهد بالمعموديّة، يُضاف اسمه على هذا الحساب، ويصير وارثًا لكلّ غِنى الله..
كأيّ حسابٍ بنكيّ، يمكن السحب منه، والإيداع فيه.. هكذا أيضًا حسابنا المُشترك مع الله، نستطيع أن نسحب منه بلا حدود، إذ "ليس بكيلٍ يعطي الله الروح" (يو3: 34)، فنغتني بالنعمة. وأيضًا نستطيع أن نودِع فيه، من ثمار عمل الروح فينا، فيزيد الرصيد في الحساب، ويستطيع أيّ إنسان، يوجَد اسمه على الحِساب، أن يستفيد به ويغتني..
* مثال:
القديس بولس الرسول عندما آمَنَ واعتمدَ، انضمّ لعضويّة جسد المسيح، وأُضيف اسمه على الحساب المُشترَك.. وبدأ يَسحَب، ويغتني بالروح القدس، وبكنوز الكلمة الإلهيّة، وبالأسرار المقدّسة.. وبعد ذلك استمرّ يتاجِر بوزناته في الخدمة والكرازة والتعليم.. ثمّ بدأ بدورِهِ يُضيف للحساب، من خير عمل الروح القدس فيه.. فأضاف مجموعة هائلة من الرسائل والتعاليم، قد صارت ميراثًا مُشتَرَكًا لكلّ المؤمنين عَبر جميع الأجيال..!
يتّضِح من هذا المثال، أنّ الرصيد في الحساب المُشتَرَك يزيد باستمرار ولا ينقص أبدًا، فمهما سحبنا منه، نحن نغتني، ولكنّ الحساب لا ينقص..!
هنا أتذكّر، كيف كان أبونا بيشوي كامل يُكَرّر في عِظاته: "أنّ الكنيسة غنيّة بعمل الروح القدس فيها، فلا يصحّ أن يكون أبناؤها فقراءَ.. وأنّ القدّيسين كانوا أغنياءَ، وأغنوا الكنيسة".. فهُم استفادوا بعضويّتهم في هذا الحساب المُشتَرَك، وأضافوا له من فيض عمل الروح القدس فيهم، خبراتٍ وتعليمًا وحُبًّا.. كرصيدٍ حيّ يتمتّع به الآن كلّ أعضاء الجسد..!
هذا الحساب المشترَك، هو ما عبّر عنه القديس بطرس الرسول، بأنّنا قد صِرنا شُركاء الطبيعة الإلهيّة (2بط1: 4).. وهو نفس ما يؤكّده القديس كيرلّس الكبير عمود الدين، في تعليقاته على إنجيل لوقا وإنجيل يوحنا: "أنّ كلمة الله وحَّد الطبيعة البشريّة بكليّتها مع نفسه.. قد صار جسدًا وأصبح إنسانًا، لا لكي يتحاشَى كلّ ما يختصّ بحالة الإنسان، ويحتقر فقرَنا، بل لكي نغتني نحن بما هو له".
هنا يظهر السؤال المُحيِّر: لماذا يوجَد بعض المسيحيّين، الذين أسماؤهم مكتوبة على هذا الحساب المُشتَرَك، الإلهي الإنساني، يعيشون كفقراءٍ تمامًا..؟! يتسَوّلون بعض العواطف أو المديح أو الكرامة من الناس.. وأحيانًا تُسَيطِر عليهم ظُلمة البُغضة والحسد والطمع والكبرياء والشهوات النجسة..؟!
ربّما بعضهم لا يفهم قيمة معموديّته، وأنّ اسمه مكتوبٌ على هذا الحساب المُشترك، ويستطيع أن يكون أغنى الأغنياء؛ في المحبّة، في الروح، في الإيمان، في الطهارة (1تي4: 12)..!
وربّما البعض لا يهتمّ بأن تسكُن فيه كلمة المسيح بغِنى (كو3: 16)..
وربّما البعض يُهمِل في حقّ نفسه، ولا يغتني بالنعمة المُذّخَرة له في المسيح، خلال الصلاة وممارسة الأسرار..
لعلّه يبدو واضحًا الآن، أنّ في الحياة الروحيّة، الغِنى أو الفقر هما اختيارٌ شخصيٌّ لكلِّ إنسان، فكلّنا أعضاء في جسد المسيح، وأسماؤنا مكتوبة على الحساب المُشترَك.. ولكن أن نكون أغنياء فهذه قصّة أخرى، إذ يرتبط هذا باجتهادنا في أن نكون منفتحين باستمرار على هذا الحساب المشترَك، فنغتني به..!
القمص يوحنا نصيف