أحمد الجمال
فور مشاهدتى حوارًا أجراه الأستاذ نشأت الديهى مع أحد كبار المسؤولين السابقين، ممن تدرجوا فى مناصب النيابة العامة حتى قمتها، ثم اختير ليعين محافظًا حتى ترك الوظيفة العامة واهتم بالشؤون العامة فى أكثر من مجال؛ استعدت سيرة شخصيتين عظيمتين فى تاريخ الوطن ومسيرة المؤسسة القضائية المصرية العريقة، أولهما المستشار محمد بك نور، رئيس نيابة مصر خلال العقد الثالث من القرن العشرين.
وهو من تولى التحقيق مع الدكتور طه حسين فى قضية كتابه الأشهر «فى الشعر الجاهلى»، واستمر التحقيق من 19 أكتوبر 1926 إلى الثلاثين من مارس 1927، لأن بلاغات قُدمت من أفراد وهيئات، كهيئة كبار العلماء والجامع الأزهر، وكذلك أعضاء فى البرلمان، تتهم عميد الأدب العربى بالطعن على الدين الإسلامى، وكان الزعيم سعد زغلول بدوره من الذين وقفوا ضد طه حسين وانتقدوه وأيدوا التحرك ضده.
أما الشخصية الثانية فهو المستشار حكيم منير صليب، رئيس الاستئناف ومحكمة أمن الدولة العليا عام 1977، وكان رئيسًا للدائرة التى حاكمت المتهمين فى القضية رقم 101 حصر أمن دولة عليا، التى عُرفت بانتفاضة الخبز، وأطلق عليها الرئيس السادات انتفاضة الحرامية، وكان من حظى أن أكون المتهم رقم 162، وكان الشاعر أحمد فؤاد نجم المتهم رقم 158.
وفى قضية الشعر الجاهلى كان الضغط العام رهيبًا، حيث سعد باشا زغلول- وهو من هو كزعيم للأمة وسياسى ومسؤول تولى المناصب الأعلى فى البرلمان وفى الوزارة- يقف ضد المتهم، وحيث الأزهر كله، شيخًا وإمامًا أكبر وهيئة كبار العلماء وعلماء آخرين وطلاب الأزهر، ثم أعضاء فى البرلمان ومعهم الصحافة آنذاك؛ كلهم ضد الدكتور طه ويطالبون بعقابه أشد العقاب.
وفى هذا الجو تولى المستشار محمد نور التحقيق الذى إذا قرأناه بدقة وتمعن فلن نمل من إعادة قراءة بحث فريد من نوعه يجمع فى أسئلته وسطوره علوم النقد الأدبى واللغة العربية والتاريخ والفقه وأصول الفقه وأصول الدين ومناهج البحث، ونجد المحقق وكأنه خبير عريق وباحث متمكن فى كل هذه الفروع، وكم من مرة يُحشر الأستاذ العميد فى زاوية.
ثم وفيما التحقيق دائر خرجت مظاهرات طلاب الأزهر وتوجهت إلى بيت الأمة، أى منزل سعد زغلول، الذى وقف فى الشرفة خطيبًا فيهم وقال قولته الشهيرة التى ظلت توجع الدكتور طه حسين: «وماذا علينا إذا لم تفهم البقر؟»!.
وأنهى المستشار محمد نور التحقيق بعبارات جاء فيها: «لم يكن غرض المؤلف مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوافر وتحفظ القضية إداريًا»!
نقلا عن المصرى اليوم