عاطف بشاي
يجلسون للشراب/ فيشربون ويجشأون/ يفتكون ويرجفون/ ويحقدون ويقتلون/ ويسرقون ويجشأون/ لكنهم بشر طيبون/ حين يملكون قبضتى نقود. الأبيات السابقة للشاعر الكبير، رائد الشعر الحديث، «صلاح عبدالصبور»، وكان معه الشاعر الكبير «أحمد عبدالمعطى حجازى» فارس الثورة الضارية ضد الشعر التقليدى.. والأبيات من ديوان «الناس في بلادى»، وهو أول ديوان للشعر الحر أو شعر التفعيلة.. وله مجموعة أخرى من الدواوين المهمة مثل: تأملات في زمن جريح- أحلام الفارس القديم- شجر الليل- الإبحار في الذاكرة.. كما أنه أعاد الروح بقوة في المسرح الشعرى، الذي خبا وهجه في العالم العربى منذ وفاة «أحمد شوقى». يقول في مطلع قصيدة أخرى: هذا زمن الحق الضائع/ فلا يعرف مقتول مَن قاتله/ ورؤوس الناس على جثث الحيوانات/ ورؤوس الحيوانات على جثث الناس.

وفى هذا الهجاء المرير والأوصاف الجارحة وانقضاض الشاعر وتعريته للنفس البشرية، أُطلق عليه «شاعر الحزن والألم».. أليس هو القائل في قصيدة جميلة: تسألنى رفيقتى ما آخر الطريق؟/ وهل عرفت أوله؟!/ نحن دمى شاخصة/ فوق ستار مسدلة خطى تشابكت بلا قصد على درب قصير ضيق/ هل تدركنا السعادة/ أم الشقاء والندم؟!/ وكيف توضع النهاية المُعادة/ الموت أو نوازع السأم؟!.

ويعلق الناقد «جمال فودة» بأن الشاعر ينشر الآهات، فنرى قصائده وكأنها زفرات أسى يتجاوز فيها المرء مكنون ذاته ليهرب من عالمه إلى عالم موازٍ يستشرف في آفاقه سحائب الأمل المفقود.

وللشاعر الكبير كتاب هو.. «ماذا يبقى منهم للتاريخ؟»، تعرض فيه لشخصيات «طه حسين» و«العقاد» و«توفيق الحكيم» و«المازنى»، وكان السبب الرئيسى لكتابته ذلك الصراع الذي أثار جدلًا واسعًا في الأوساط الأدبية والثقافية بين رواد «الحديث»، ويمثلهم في ذلك الوقت «صلاح عبدالصبور» وحراس القديم.. وهم من وجهة نظره «طه حسين» و«العقاد».. وكان هذان العلمان أولهما عميد الأدب العربى.. والثانى لُقب بالكاتب الجبار.. ورغم أن «صلاح عبدالصبور» لم يعترف لهما بفضل الريادة في الأدب العربى، فإنه لم يكن لهما عداء حقيقى.. لكنه وجد في موقفهما غير الودى من تيارات الأدب الحديث حجر عثرة أمام تقدم العقل العربى، ما جعله يقسو في انتقادهما.

الجدير بالذكر أنه سبق «للعقاد» أن هاجم ومعه «عبدالقادر المازنى» شعر أمير الشعراء «أحمد شوقى» وشاعر النيل الكبير «حافظ إبراهيم»، ضمن كتاب اشتركا في تأليفه، هو «الديوان»، الذي تناولا فيه شعريهما بالكثير من الهجاء والسخرية والاتهام بالجمود والتقليدية وانحصاره في شعر المناسبات وعدم التطور والعجز عن مواكبة العصر وتحدياته.. فتدور الأيام دورتها وتجرى في النهر مياه جديدة.. ويتهم «صلاح

عبدالصبور» و«أحمد عبدالمعطى حجازى» العقاد بقسوة وكذلك «طه حسين»، وقد واجه «حجازى» «العقاد» بقوله الحاد الشهير: «أنت ضيف على زماننا».

يرى «صلاح عبدالصبور» أن «طه حسين» نموذج لن يتكرر في حياتنا الأدبية في تنوع اتجاهاته وموسوعيته.. وإن كان هناك الآن قصاصون أفضل منه.. ومؤرخو أدب أصح اتجاهًا منه وعلماء باللاتينية والإغريقية أوثق معرفة منه.. أما رأى «عبدالصبور» في قصة «دعاء الكروان» الشهيرة لـ«طه حسين»، والتى تحولت إلى فيلم سينمائى بطولة «فاتن حمامة» و«أحمد مظهر» ومن إخراج «بركات»، فيتلخص رأيه في أن عقدة القصة تقوم على فكرة غير محلية على الإطلاق، حتى ولو استعار الكاتب شخصياته من حياة بادية ريف مصر.. إنها قصة الانتقام بالحب.. أو الانتقام حين يتصارع مع الحب.

وهى عقدة رقيقة ورشيقة، فرنسية الشكل والأسلوب والفكر.. رغم هذه البيئة الصحراوية الريفية وبين هذا التناقض الغريب أو اللقاء الغريب وبين أسلوب القصة المتأثرة بالرواية الفرنسية الناعمة.. لم تستطع «دعاء الكروان» أن تحلق أبعد من السنة التي ظهرت فيها.. ويستدرك «صلاح عبدالصبور» مؤكدًا أن «دعاء الكروان» رغم أنها لم تؤثر في الرواية العربية، فإنها من أوضح أعمال «طه حسين» دلالة على اتجاهه الثقافى.. إنه يضع احدى قدميه في الأزهر الشريف.. وقدمه الأخرى في «باريس»، ومن المؤسف أنه لم يستطع أن يخطو بقدميه معًا إلا خطوات مضطربة.. فكان أسلوبه أكثر تأثرًا بالأزهر الشريف.. وكانت أفكاره أكثر تأثرًا «بباريس»، أما فيما يتصل بالعقاد وشعره فإن «صلاح عبدالصبور» يرى أن نقد «العقاد» لـ«أحمد شوقى» في كتابه «الديوان»، الذي أصدره في عام 1922، كان نقدًا بالغ الحدة عالى الصوت.. لكنه كان قليل الجدوى من الناحية الفنية، إذ إنه لم يهتم بإبراز النظرية النقدية أو القيم الأدبية التي توجه هذا النقد.. بل لقد استعان العقاد بالسخرية أحيانًا والهجوم العنيف أحيانًا أخرى.. وقد استفاد العقاد من هذه المعركة النقدية ذيوع اسمه وبُعد صيته.. ولكن هذه المعركة لم تضر «شوقى»، وظلت للشاعر الكبير مكانته وأسبقيته في ميدان الشعر العربى في القرن العشرين. يقول «صلاح عبدالصبور»: «وأذكر في تلك السنوات أن دار جدل متصل على صفحات الصحف بين الأستاذ (العقاد) وبينى، كنت فرِحًا به، فمَن أنا في آخر الأمر حتى يسألنى سائل: ما أخبار المعركة بينك وبين العقاد؟!. ولكنى- وهذه شهادة للتاريخ- كنت حريصًا خلال هذا الجدل كله على أن أتصاغر في خطابى للعقاد العظيم، وإلا فكيف أنكر أيام حياتى هذه، حيث كنت أقرؤه مرتعد العقل والقلب؟!..».
نقلا عن المصرى اليوم