صلاح الغزالي حرب
أولًا.. عن أوضاع الجامعات:
وصلتنى هذه الرسالة شديدة الأهمية من أحد الزملاء الأساتذة المتفرغين بطب القاهرة حول التحديات في مجال البحث العلمى ولجان الترقيات، وجاء فيها (من خلال دورى كمحكم وأحد أعضاء اللجان العلمية لترقية الأساتذة والأساتذة المساعدين في مجال تخصصى، اتضح لى بصورة جلية غير قابلة للشك فقدان البحث العلمى في مصر لأهميته من بعض المشاركين في منظومة البحث العلمى، فالباحثون والمتقدمون للترقية لا يهتمون سوى بالترقية إلى وظيفة أعلى دون النظر إلى مدى أحقيتهم في الحصول على هذا اللقب العلمى، فالأبحاث بعضها تكرار لدراسات سابقة، دون الأخذ في الاعتبار المشاكل التي يعانى منها المجتمع، بالإضافة إلى الزيادة الملحوظة في معدلات الاقتباس والتأليف وتزييف النتائج، كما أن بعض المتقدمين للترقية يقومون بنسخ نتائج أبحاث رسائل، لم يشاركوا فيها، ويتم نشرها بأسمائهم، في مخالفة لقواعد الأخلاقيات العامة وأخلاقيات البحث العلمى والأعراف والتقاليد الجامعية، والبعض يقوم بالاستيلاء على بيانات مرضى بمستشفيات أخرى، وبدول أخرى، لم يعملوا بها!، وينسبون علاج هذه الحالات لأنفسهم، في مخالفة صريحة لكل الأعراف الجامعية، بالإضافة إلى تزوير موافقة لجان أخلاقيات البحث العلمى على إجراء هذه الأبحاث، وكذلك فإن بعض المتقدمين للترقية من الحاصلين على إجازة لمرافقة الزوج تُضاف أسماؤهم على أبحاث ورسائل لم يشتركوا فيها أو تتم إضافة باحثين أجانب لم يزوروا مصر على أبحاث أُجريت على مرضى مصريين بالمستشفيات الجامعية، وللأسف، تُقبل الترقية؟!.. وبناءً على ما تقدم، فلقد تقدمت باستقالتى باعتذار مسبب عن الاستمرار في عضوية لجان الترقيات).

انتهت رسالة الزميل الفاضل الموجهة إلى السيد أمين المجلس الأعلى للجامعات.. ثم تصادف بعد عدة أيام أن وصلتنى رسالة من أخى العزيز أ. د. أسامة حمدى، الأستاذ بجامعة هارفارد، قال فيها: (يمر، اليوم، ربع قرن على التحاقى بالتدريس والبحث العلمى والعمل الإكلينيكى في جامعة هارفارد- أقدم جامعات أمريكا وأعرقها- التي لا يلتحق بها أو يعمل فيها إلا مَن يستحق دون النظر إلى منشئه أو دينه أو لونه أو جنسه، والتى أُنشئت عام 1636 كأول جامعة أمريكية، وبتبرعات المواطنين، وحصد خريجوها حتى الآن 49 جائزة نوبل، وقد وصل وقف الجامعة من تبرعات خريجيها والمحبين لها إلى 50.9 مليار دولار، وتمثل مصاريف الطلاب 10% فقط من دخل الجامعة، ويكمن سر تميزها في 3 أشياء، أولها الاستثمار الضخم في الأبحاث العلمية، فكلية الطب وحدها تنشر سنويًّا 22 ألف بحث علمى جاد، قد يؤدى أي منها إلى براءة اختراع أو تطبيق تنتج عنه شركة منتجة تسهم لاحقًا في خدمة الجامعة، فبراءة الاختراع الواحدة قد تصل إلى مليار دولار، كما حدث مؤخرًا، وثانيها هو الاختيار الأمثل والدقيق جدًّا لطلاب الجامعة، دون النظر إلى الاعتبارات المالية، وثالثها هو اختيار العاملين فيها، فالجامعة تخلق جوًّا تنافسيًّا علميًّا رائعًا لا يمكن فيه إلا أن تُجيد لتبقى، والجامعة لا تدفع إليهم رواتب، بل يحصلون على جزء من التمويل الخارجى لأبحاثهم وجزء من عائد عملهم الإكلينيكى وثالث مقابل التدريس، الذي يُحسب بالساعة.. وقد دربت أثناء عملى بالجامعة أكثر من 50 طبيبًا وباحثًا من مصر والبلاد العربية شرفونى في كل مكان عملوا فيه، ودائمًا ما أفتخر بهم.. ويبقى أن أذكر أن 8 من خريجيها شغلوا منصب رئيس الولايات المتحدة، و48 حصلوا على جائزة بولتزر الشهيرة في الصحافة والأدب والموسيقى، و10 حصلوا على الأوسكار في التمثيل، و110 حصلوا على ميداليات أوليمبية).

انتهت رسالة أخى العزيز أ. د. أسامة حمدى، الذي أهنئه على مشواره المشرف في هذه الجامعة العريقة، متمنيًا له المزيد من النجاح والتألق ورفع اسم مصر عاليًا، وأعود إلى الرسالة الأخرى، التي لم تكن مفاجئة لى، ولكنها حزّت في نفسى، وأزعجتنى، ودقت ناقوس الخطر، ولذلك، فإننى أتوجه إلى مَن يهمه الأمر لإصلاح أحوال الجامعات قبل فوات الأوان، ونبحث عن الأسباب:

أُنشئت جامعة القاهرة عام 1908، وكانت تتلقى إعانة 2000 جنيه سنويًّا من وزارة المعارف، ولم تتدخل الحكومة في تعيين الأساتذة ولا شؤونها، وقد نص أول قانون لتنظيم الجامعة عام 1917 على أن الجامعة تدير أمورها بنفسها، كما نصت المادة 21 من الدستور الحالى على أن الدولة تكفل استقلال الجامعات، وللأسف الشديد، فقد تراجعنا كثيرًا في السنوات الأخيرة، ومن هنا بدأ الخلل، وضاع مفهوم استقلال الجامعات، وهو أمر شديد الخطورة، ويجب أن تعود كل جامعة إلى اختيار قياداتها بنفسها وفق معايير علمية وعالمية تعتمد على الخبرة والكفاءة وحسن الإدارة، مع ضرورة وجود مجلس أمناء، يتم اختياره بعناية، يتولى المتابعة والرقابة.. كما أطالب بإعادة النظر في موضوع المجانية في الجامعات، والتى يجب أن تقتصر فقط على الجادين والمتفوقين، كما يجب أن تخصص ميزانية خاصة للبحث العلمى، كما نص الدستور، مع الاستعانة بعلمائنا في الخارج، ولا حاجة لوجود وزارة خاصة للتعليم العالى، ويكفى وجود مجلس أعلى للجامعات، يتناوب عليه رؤساء الجامعات.. وغيرها من الأفكار التي تعيد إلى الجامعة المصرية هيبتها وسمعتها، ونحن في انتظار ما سوف تسفر عنه تحقيقات المجلس الأعلى في شكوى الأستاذ الفاضل فيما يخص أخلاقيات البحث العلمى، وأسلوب ترقية هيئات التدريس، كما أشدد مرة أخرى على ضرورة الحفاظ على حرية واستقلال الجامعات.. ويبقى أن أوضح أننى لم أتعمد المقارنة غير العادلة، ولكنها المصادفة، التي دفعتنى إلى مناقشة الموضوع.

ثانيًا.. عن الفتاوى'>فوضى الفتاوى:
عندما يتجاوز عدد الفتاوى التي تستقبلها دار الإفتاء حاجز المليون في العام الواحد، فمعنى ذلك أن هناك خللًا شديدًا وقصورًا فاضحًا في فهم الدين، مع وجود الأمية، وعدم القدرة على إعمال العقل واستفتاء القلب، كما قال رسولنا الكريم، عليه الصلاة والسلام: (استفتِ قلبك.. والبر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك). وقد ابتُليت مصر في السنوات الأخيرة بفتاوى السلفيين وشيوخ البرامج، والتى تتنافى مع الدين والعقل، مثل حرمة تحية العَلَم، والوقوف للسلام الجمهورى، وارتداء المرأة للصندل، وجواز زواج البنت من عمر يوم واحد!، وغيرها الكثير.. وقد سعدت كثيرًا بمقال مهم للأستاذ الدكتور سعد الدين الهلالى، أستاذ الفقه المقارن، ذكر فيه (أن البعض يرى أن الدين قد نزل من السماء ليحكم البشرية بواسطة علمائه المُمَكَّنين أو فقهائه المتحكمين.. والحقيقة أن الفتوى هي رؤية صاحبها وفهمه المحتمل للصواب والخطأ، وأنها غير ملزمة.. ثم إن الدعوة إلى توحيد فتاوى المجتهدين دعوة عبثية لاختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان والحال ومنهج الاستنباط ومهارته التي يتفاوت فيها المجتهدون.. إن الفتوى إجابة واحدة حاسمة لسؤال في قضية محددة، أما الفقه فهو بيان لإجابات مختلفة لذات السؤال، بحيث يكون للسائل سلطة تقديرية في اختيار إحدى تلك الإجابات التي تليق بأوضاعه وطمأنينة قلبه..).

انتهت كلمات أستاذ الفقه المقارن، ويبقى لنا أن نُعمل عقولنا ونحترمها ونفكر ونتدبر كما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى، وأن نتذكر قوله تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونُخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا).

ويبقى السؤال: لماذا توقف البرنامج الذي كان يقدمه الأستاذ الهلالى، في الوقت الذي نحتاج فيه جميعًا إلى الإنصات إليه وإلى أمثاله من رجال الدين،

(د. محمد المنسى والشيخ أحمد تركى وكثيرين آخرين)، الذين يحملون على أكتافهم عبء إصلاح الخطاب الدينى، والذى دعا إليه أكثر من مرة رئيس الدولة؟.

* عميد طب المنيا السابق
نقلا عن المصرى اليوم